ياسمين الجندي تكتب: رسالة إلى صديق العمر نبيل فاروق

بعد التحية والسلام، ها هي يا صديقي رسالتي الثانية لك.. قد يستغرب البعض لماذا أناديك هكذا. بل ربما تستغرب أنت نفسك هذه التسمية. لذلك دعني هذه المرة أحكي.. دع عنك عناء الكتابة والشرح واتركه لي.. علّني أستطيع.

منذ سنوات بعيدة.. تخطت العشرين؛ اعتبرتك صديقي الأقرب، رُغم فارق السن بيننا والذي تجاوز الثلاثين عاما. أول لقاء يجمعنا كان في منزل صديقة لأمي، وقت أن كانت أسرتي تقضي الإجازة الصيفية على شاطئ المعمورة. قبل أن ننزح جميعا إلى الساحل الشمالي بعد ذلك بسنوات قليلة. إلا أن المعمورة لازالت تحتل مكانة خاصة في قلوبنا، لعدة أسباب، يتعلق بعضها بك.

نرشح لك: ذكرى ميلاد نبيل فاروق.. ملف خاص

 

عودة للقائنا الأول. كنت قد دأبت على قراءة سلسلة “المغامرون الخمسة” الشهيرة التي أعطانيها خالي العزيز. كانت بمثابة كنز طفولته وطفولتي، حتى كانت تلك الزيارة لصديقة أمي. وهناك، رأيت اسمك على غلاف عدد رقم 137 من سلسلة “رجل المستحيل”. وكأن عالما جديدا بل ومجرة بأكملها قد دانت لي. لم أقرأ العدد، بل التهمته. وبسرعة توجهت بعدها إلى أكشاك بيع الكتب والصحف التي كانت تحتل مساحة لا بأس بها من كورنيش المعمورة. أظنك تذكرها جيدا يا صديقي. ربما تتذكرها أفضل مني. من تلك الأكشاك المتلاصقة تعمقت صداقتي بك. واشتريت كافة الأعداد اللاحقة للعدد السابق قرائته.

وقتها، علم كل منا أن صداقتنا ستمتد لسنوات. كانت تلك الأعداد بمثابة يدك التي امتدت إليّ؛ فما كان مني إلا أن أطبقت عليها حتى لا نفترق. فصرت الرفيق المخلص في بقية سنوات طفولتي، وونيسي في سنين المراهقة. كنت أُبقي أعدادك فوق وسادة سريري. لا تفارقني حتى يصدر العدد الجديد.

أتعلم؟ أدهم كان سببا في رغبتي، التي امتدت لسنوات طويلة، للالتحاق بالعمل بجهاز المخابرات وربما العمل في فريقه. أجزم أن كثيرين قبلي قد قالوا لك هذا الأمر. مضحكة هي أحلام ورغبات الطفولة. إلا أنها دائما صادقة.

أتذكر إحدى زيارات معرض الكتاب في مقره القديم بأرض المعارض بمدينة نصر، كنت برفقة أبي. التفت بعد دقائق من خروجنا من جناح المؤسسة العربية الحديثة، فلم يجدني بجواره. عاد فرآني أقف بجوار نموذج بالحجم الطبيعي لأدهم صبري على مدخل الجناح، أقلد وقفته وحركة يده.

لم يكن أدهم صبري مجرد بطل سلسلة روايات للناشئة. كان رمزا لطفولة جيل بأكمله، واكتفينا به عمن سواه. فلم ننجذب إلى الأبطال الخارقين الذين يتم تصديرهم إلينا. أتذكر بحنين جارف كتب الجيب، التي ناسبت مصروفي وحجم جيبي الصغير. في تجربة أعتبرها هي الأكثر إلهاما من التجارب الثقافية التي شهدتها بلادنا في السنوات الأخيرة. على مر عقود كنت أنت، وصديقك د. أحمد خالد توفيق، فقط من مدّوا أيديهم إلينا. خاطبتونا بلغتنا، فكبرنا على أيديكم. وصرتما الأصدقاء الأقرب.

أعتني عناية فائقة بكنزي من أعداد سلسلة “رجل المستحيل” في طبعتها القديمة، ذات الأغلفة المميزة. وكلما انتقلت من مسكن لآخر، أو حان وقت جرد مكتبتي، لا أسمح بالمساس بأي من قصص “ن1”. فكلما وقع نظري عليها، أقتنص الفرصة لأحكي عن رجل نبيل، كان له نصيب من اسمه، كما كان له عظيم الأثر في نشأتي.

منذ أيام، أخبروني برغبتهم في مشاركتي بكتابة مقال عنك، وعن تأثيرك في تكويني وشخصيتي، إلا أنني فضّلت أن أبعث إليك برسالة جديدة، آملة أن تجد سبيلها إليك وتقرأها من عالمك الجديد. فإن لم يكن، فسأخبرك عنها بالتأكيد حين نلتقي على خير.

نرشح لك: أرزاق.. صراع الثعالب الأبدي ودراما الطموح والوشاية


أكتب إليك الآن من غرفة المعيشة في منزلي، فإذا ما نظرت لليسار قليلا.؛ ستجد اسمك مكررا. يحتل مساحة كبيرة بمكتبتي، ومكانة أكبر بقلبي.

ودعتنا وغادرت في نهاية عام 2020، وكأن هذا العام لا يكتفي من الأحباء الذين رحلوا فيه. فقد فقدت في منتصفه صديقة أخرى. كانت تكبرني هي أيضا بما يزيد عن الأربعين عاما. ولكنها مثلك تماما، لم تُشعرني أبدا بهذا الفارق.

لحظة أن علمت بمغادرتك لعالمنا، شعرت كما لو كانت سنوات طفولتي ومراهقتي هي من غادرتني. يومها كتبت لك أولى رسائلي. لم تكن المرة الأولى التي أحكي عنك. فالجميع يعرف مكانتك لديّ. إلا أنها كانت المرة الأولى التي أُوجه فيها كلامي إليك. فأنا يا عزيزي، شأني شأن البقية. أعاني من آفات مجتمعنا، الذي يُفاجئه الموت كل مرة، فيشرع في الحديث عن أحبائه.

لم نتعلم الدرس ولا أظننا سنتعلمه يوما. فما فائدة هذا الحديث وقد غادرتمونا بالفعل. لماذا لا نُجيد التعبير عن حبنا وامتنانا في حياة من نحبهم؛ كي يسعدوا بتلك المشاعر، علّهم يحتموا بحب الناس من مصاعب الحياة.

فلماذا لم نلتق؟ لم يكن هذا خطأك. أتحمل وحدي كل اللوم. فأنا أنخدع دائما بأنه لا يزال لدي كل الوقت؛ لألتقي بمن أحب، وآنس بهم ونصنع سويا ذكريات تُهون من هول الرحيل. فجاء رجيلك درسا أخيرا منك إليّ.
وقتها كتبت إليك وحكيت لك القصة من بدايتها.

أخبرتك عن امتناني لك، وعرفاني بجميلك عليّ وعلى كل أبناء جيلي. عن التزامي بقراءة كل ما يخطه قلمك، حتى ولو لم يكن على ذائقتي، عرفانا بفضلك. عن تأثيرك على المشهد الثقافي حتى بعد أن كبر جيل “أدهم صبري”، فصار منهم الكاتب والناقد، وأصبح العديد منهم من المَعنيين بالشأن الثقافي وأصحاب المبادرات المختلفة. أتسائل وزوجي، تُرى هل سيظهر في المستقبل القريب، من يُكمل مسيرتك، ويُقدم أدبا للناشئة، فيصبح صديقا لأولادي مثلما كنت لنا؟!

لكل هذه الأسباب والحكايات السابق ذكرها، ولكل تلك الأسباب والذكريات التي لم تسعفني مساحة المقال على سردها. أعتبرك صديقي.. أنت صديقي الذي لم أقابله ولو مرة واحدة، ورُغم ذلك، امتدت صداقتنا على مدار عشرين عاما. أنت صديقي الذي تكبرني بما يزيد عن الثلاثين عاما، إلا أنك لم تُشعرني أبدا بهذا الفارق. بل على العكس تماما.

كنت أنت من بذلت كل الجهد للتقرّب، وإيجاد لغة مشتركة، وتمهيد الطريق لتلك الصداقة وتقويتها على مر السنوات.
وكم يسعدني عدم كوني المحظوظة الوحيدة بتلك الصداقة.. فقد كنا آلافا.

فلك منا يا صديقي كل السلام والمحبة، والعرفان.

نرشح لك: نورا ناجي تكتب: لو لم يكن نبيل فاروق ما كنت أنا