أرزاق.. صراع الثعالب الأبدي ودراما الطموح والوشاية

محمد هشام عبيه

ارتبط اسم د نبيل فاروق دائما برجل المستحيل، أو أدهم صبري ضابط المخابرت المصري الفذ، الذي تنافس شهرته بكل تأكيد شهرة عميل المخابرات البريطاني الشهير جيمس بوند، وإن تفوق أدهم على بوند في أخلاقياته (فهو لايقتل إلا مضطرا)، وفي إخلاصه لحبيبته (زميلته منى توفيق)، بينما يطلق بوند الرصاص على الجميع، ويقبل كل حسناء يلتقيها.

لكن بعيدا عن أجواء روايات الجاسوسية المثيرة، فإن لدكتور نبيل فاروق تجربة تستحق الوقوف عندها، وهي روايته التي وصفها بأنها “اجتماعية طويلة”، واختار لها اسما مختصرا ودالا هو “أرزاق”.

نرشح لك: ذكرى ميلاد نبيل فاروق.. ملف خاص


صنع نبيل فاروق عالما مدهشا ومغايرا بالفعل في”أرزاق” وهي رواية أجيال بامتياز وقد كتبها على مدار نحو 25 سنة، متتبعا فيها رحلة صعود وانهيار عائلة “البنهاوي” مع بشائر ثورة يوليو عام 1952 وصولا إلى عقد اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1978.

الرواية التي كتبها أشهر كاتب أدب بوليسي عربي في الأربعين سنة الأخيرة، ظلت تحتفظ بالتشويق والإثارة والترقب الذي ميز كتابات نبيل فاروق طويلا، وتحفل بالكثير من قصص الحب المتكسرة على نصال المصلحة والنفوذ، والعديد من المؤامرات والدسائس والفتن في نطاق العائلة، أو داخل أروقة ودهاليز الحكم في سنوات عصيبة ولاهبة واستثنائية، لم يكن فيها الصراع على أو داخل السلطة، أقل عنفا وسخونة من حروب خارجية متعددة واجهتها مصر.

نشرت الرواية مسلسلة لأول مرة عبر سلسلة “كوكتيل 2000” التي صدر عددها الأول عام 1989، ثم نشر الجزأين الثاني والثالث من “أرزاق” في كتابين منفصلين عامي 1993 و1995 على الترتيب، وانتظر القراء نحو 20 عاما لصدور الجزء الرابع والأخير عام 2015.

تبدأ مغامرة عائلة البنهاوي كلها بطموح ووشاية. الطموح كان لدى الابن الأكبر، حسين، الذي نجح في الالتحاق بالكلية الحربية عام 1951، وقد أراد بجانب النفوذ الذي يلوح على بعد سنوات أربع، أن يزاوجه بنفوذ أخر عن طريق منح والده الحاج محمد البنهاوي، لقب الباشا.

البنهاوي الكبير، وقد انتقل قبل سنوات بعيدة، من إحدى قرى طنطا إلى واحدة من قرى بنها، استطاع عبر سنوات من الكفاح والعرق أن يضاعف ثروته من الطين، لتصل لنحو 1000 فدان، صنعت له أسطورته في قريته، وجعلت سرايا “البنهاوي” تجسيدا للأحلام الكبرى.

يبدو البنهاوي الأب غير متحمسا لشراء لقب الباشوية، لكن حسين الابن يواصل الضغوط، إلى حد عقد صفقة مع أحد رجال القصر، سيشترون اللقب مقابل 70 ألف جنيه (وهو رقم ضخم بمقاييس الخمسينيات)، ونقل ملكية 200 فدان من أملاك البنهاوي إلى الخاصة الملكية.

يثير ذلك سخط عمدة القرية الذي شهد وصول البنهاوي الكبير إلى البلدة فقيرا معدما، وهاهو الآن قد أصبح من كبار رجالها، وعلى شفا الفوز بلقب الباشا، فيدبر مع مأمور المدينة فخا، لقد انتشرت حينها المنشورات الموقعة باسم الضباط الأحرار لتحث الناس على العمل ضد الملك فاروق، بحيلة ذكية يجرى صناعة منشورة مزورة ودسها في سرايا البنهاوي، ليتم إلقاء القبض على البنهاوي الأب والابن بتهمة التحريض ضد الملك، وذلك قبيل ساعات من فوز البنهاوي بلقب الباشا.

في السجن، الذي قادهم إليه صاغ شرس في البوليس السري يدعى إبراهيم مكي، تنهار أحلام حسين، فهو لا يعرف الضباط الأحرار، ولا يعادي الملك، ولا هم له سوى أن يفوز أبوه باللقب، وأن يتخرج هو من الكلية الحربية، لكنه الآن ينتظره مستقبلا أسود. لكن الفرج يأتي في 23 يوليو 1952، بعد أيام قليلة من الزج بحسين ووالده إلى السجن. لقد أتاهم الصاغ إبراهيم مكي بنفسه ليفرج عنهما معتذرا، ومؤكدا لهم أنهم من الوطنيين الأحرار.

يدرك حسين أن الوشاية منحته صدفة تاريخية لا تتكرر أبدا، فقرر أن يستغلها لصالحه ولو كان في الأمر مغامرة أو مقامرة. يرسل برقية تهنئة وتأييد للضباط الأحرار، تكون هي أول البرقيات الداعمة التي وصلتهم. ويتعامل في القرية على أنه من المقربين منهم، حتى يأتيه استدعاء من أحد الضباط الأحرار “رفعت كساب”، ليعرض عليه ترقية استثنائية تمكنه من أن يصبح بالفعل من المقربين من الضباط الأحرار، ويسند مهمة تدريبه إلى “إبراهيم مكي” الذي ترك العمل في البوليس السياسي الملكي، وعرض خدماته على الحكام الجدد فقبلوها.

نرشح لك: نورا ناجي تكتب: لو لم يكن نبيل فاروق ما كنت أنا


ومن هذه النقطة شديدة الدرامية، يتشكل الصراع الذي سيمتد بين حسين البنهاوي وإبراهيم مكي لنحو 25 سنة، فحسين لا ينسى أبدا أن مكي هو من ألقى القبض عليه هو ووالده مقابل وشاية بدا أنها مدبرة، ومكي يرى في حسين مجرد شاب عابث انتهازي لا يستحق ما هو فيه. وأنه إذا كان هناك شخصا يجب أن يكون ذراعا يمنى للعهد الجديد فيجب أن يكون هو هذا الشخص لا ذلك الطالب القروي بالكلية الحربية قليل الخبرة والحيلة.

تستمر رحلة صعود حسين البنهاوي، وتخدمه الصدفة مجددا، حينما ينحاز لجمال عبد الناصر ضد محمد نجيب، خلال أزمة مارس 1954 الشهيرة، صحيح أنه يدفع ثمن ذلك مباشرة بالإبعاد عن الخدمة لعدة أشهر، لكن فور إحكام عبد الناصر لقبضته على السلطة، يستدعي حسين من عزلته، حتى يطلق يده من أجل تطهير الثورة من العملاء، بالطبع يكون أول العملاء الذين يقرر حسين إقصائهم من الدائرة المقربة للضباط الأحرار هو الصاغ إبراهيم مكي.

لكن مكي، كما الثعلب المرواغ، ينجو من الفخ، ويواصل بالتوازي مع حسين رحلة صعوده، ويبدو كأن كلا منهما وجهين لعملة واحدة، كلاهما يبحث عن النفوذ والقوة والسلطة مهما كان ثمن ذلك، في طريقه لهذا، يدهس حسين قلب أخيه مفيد بحرمانه من الزواج من مديحة حبيبة عمره لأنها ابنة “كلاف البهائم”، ولا يمكن لشخص مثل حسين أن يناسب عائلة متواضعة مثلهم، وعندما يقاوم مفيد ذلك ويتمسك بحبه، يستخدم حسين نفوذه لإبعاد مديحة ووالدها- بعد وصلة احتجاز وترهيب- من القرية، ولا يكتفي بذلك، بل يجبر مديحة على الزواج من أحد اقربائها ليغلق باب الأمل نهائيا على مفيد الذي يزداد انكسار على انكسار.

يتورط حسين في حب الأميرة عايدة، وهي واحدة من أميرات العصر الملكي، التي تكن كل كراهية لرجال ثورة يوليو، لكنها تستخدم حسين وسيلة من أجل الهروب إلى باريس في وقت كان السفر فيه إلى الخارج معقدا ويكاد يكون مستحيل لأمثالها.

ورغم هذه الطعنة، يستمر صعود حسين، ولا ينجح في استعادة عايدة وزواجه منه فحسب، بل يصل إلى حد أن يصبح مديرا لمعلومات مكتب الرئيس السادات وأحد رجاله المقربين، وتدور الدوائر، حتى يصبح شريكا مع عدوه اللدود إبراهيم مكي في استثمارات ضخمة غير رسمية، وقد استفادوا من سيولة الوضع الاقتصادي عقب الانفتاح، لكن نهاية موجعة تنتظر الثعلبين المخضرمين في النهاية.

تزخر “أرزاق”، التي يمكن اعتبارها درة أعمال نبيل فاروق الخفية، بشبكة علاقات اجتماعية درامية، وتكشف عن كثير من ملامح التحول الاجتماعي والسياسي الذي ضرب القرية والعاصمة، وكيف ينسحق أصحاب القلوب الهشة أمام قوة النفوذ وبطش السلطة. وتبدو الرواية خصوصا في أجزائها الثلاثة الأولى، جريئة في التعاطي مع أحداث تاريخية ساخنة، وفي التعامل مع شخصيات سياسية بارزة مثل الرئيسين عبد الناصر والسادات، وشخصيات أخرى تبدو مستوحاة من الواقع مثل إبراهيم مكي رجل البوليس السياسي الملكي الذي يتقلب على كل العصور غير قابل للسقوط، والضابط رفعت كساب، أحد الضباط الأحرار الذي يبدو في أحيان كثيرة ذئبا يتلذذ برؤية ضحاياه وهم يسقطون صرعى على مقربة من أنيابه.

“أرزاق” عمل أدبي دسم يستحق أن يسلط الضوء عليه، ويصلح بشدة لأن يتحول إلى مسلسل درامي شيق وجريء، عن فترة ثرية من تاريخ مصر المعاصر، لن يكشف فقط عن دور الصدفة والوشاية في رحلات الظفر بالنفوذ واجتثاثه عنوة، وإنما أيضا تشير إلى أن صراع الثعالب الأبدي الشرس، من أجل الفوز بكل شيء، غالبا ما ينتهي بخسارتهم لكل شيء.

نرشح لك: إيهاب الملاح يكتب: نبيل فاروق.. وتأسيس شغف القراءة!