إيهاب الملاح يكتب: نبيل فاروق.. وتأسيس شغف القراءة!

(1)

ورقة عزيزة جدًّا وغالية جدًّا من أوراق ذكرياتنا الأولى، وحنيننا إليها لا ينفد، سقطت برحيل الكاتب ورائد أدب الجاسوسية والمغامرات والخيال العلمي دكتور نبيل فاروق؛ صاحب البهجة الأولى وتفتح العين على شغف القراءة، وارتباط الوجدان بـ “روايات الجيب”، و”سلاسل المغامرات”، و”أدب الرعب”، و”الأدب البوليسي”، و”الخيال العلمي”.. صديق الطفولة والصبا ورفيق سنوات المراهقة واشتعال الخيال!

إنها ذكرياتنا التي لا ننساها لسنواتنا الأولى (بعد الخامسة) كنا نحبو فيها حبوًا نتعرف على العالم ونتحسس الوسائل المتاحة والمصادر الممكنة للتعرف على هذا العالم، كانت الإذاعة والتليفزيون ثم التعرف على المجلات المصورة و”روايات الجيب” هي الدنيا بأسرها.. سبقتها طبعا مرحلة (ميكي) و(سمير) و(ماجد) و(براعم الإيمان) كانت مرحلة مبكرة للغاية، ربما استغرقت السنتين أو السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية.

نرشح لك: ذكرى ميلاد نبيل فاروق.. ملف خاص


ثم جاءت مرحلة اكتشاف “روايات مصرية للجيب” التي صدر أول أعدادها من سلسلة رجل المستحيل في العام 1984، بعنوان «الاختفاء الغامض» لمؤلفها الشاب آنذاك نبيل فاروق الذي سيكون مقدرا له أن يلعب دورا محوريا وغير مسبوق في تنمية الوجدان الوطني العاطفي، وتذكية مشاعر الولاء والانتماء لهذا الوطن، وتعريف أجيال وأجيال ببطولات وملاحم جهاز المخابرات الوطني ولو عن طريق سلاسل الجيب وكتابة الروايات والقصص.

(2)

نبيل فاروق طبيب ومؤلف روايات بوليسية مثيرة، وكتب معلومات ومعارف منوعة موجهة للشباب والناشئة، تخصص في كتابة الأدب البوليسي، وروايات الخيال العلمي، وقدّم عشرات السلاسل الناجحة التي تسيد بها ساحة النشر في مصر بل العالم العربي كله منذ الفترة 1984 وحتى نهاية القرن؛ لم ينافسه فيها منافس إلا بعد ظهور الكاتب أحمد خالد توفيق رحمه الله بسلسلته (ما وراء الطبيعة) في تسعينيات القرن الماضي، ثم تصدر المشهد لمدة عشرين عاما تقريبا.

بدأت رحلته مع تأليف روايات الجيب بفرعيها “أدب الجاسوسية والمخابرات” و”أدب الخيال العلمي” وهو طالب في كلية الطب بجامعة طنطا، ثم انطلق عقب تخرجه في كلية الطب بجامعة طنطا في إصدار عدد من السلاسل بعد أن تقدم لمسابقة نظمتها المؤسسة العربية الحديثة (لصاحبها المرحوم حمدي مصطفى) في أدب الخيال العلمي، وتقدم لها نبيل فاروق بقصته “أشعة الموت” وفازت بالمركز الأول، فتعاقدت معه المؤسسة العربية الحديثة لصاحبها المرحوم حمدي مصطفى على إصدار سلاسل موجهة للشباب؛ كان أشهرها “رجل المستحيل” و”ملف المستقبل” وصدر العدد الأول من رجل المستحيل بعنوان «الاختفاء الغامض» سنة 1984.

نجحت السلسلتان نجاحا مدويا ووزعتا آلاف النسخ في زمن قياسي، ما حدا بالمؤسسة العربية الحديثة إلى استثمار هذا النجاح غير المسبوق ودفعت مؤلفها الشاب إلى إصدار سلسلة رومانسية أخرى موجهة للشباب بعنوان (زهور). وخلال عامين فقط وربما أقل غَزَت “روايات مصرية للجيب” العالم العربي كله من المحيط إلى الخليج، ولم يكن هناك بيت يخلو من رواية أو واحدة على الأقل من هذه السلاسل، وكرست اسم صاحبها كأحد أهم وألمع نجوم كتابة هذا النوع من الأعمال المصنفة عالميا بـ “أدب الإثارة والتشويق”.

وخلال الفترة من 1987 حتى 2000 قدم نبيل فاروق عشرات المئات من الأعمال وصار كاتب الشباب الأول (تحت سن الثلاثين) وتحولت بعض من أعماله في الجاسوسية إلى أفلام ومسلسلات درامية من أشهرها فيلم “الرهينة” ومسلسل “العميل 1001” ومسلسل كارتون بعنوان “بطل من سيناء” المأخوذ عن قصته “جاسوس سيناء”. واستحق نبيل فاروق أن يكون خليفة لاسمين كبيرين في هذا المجال (كتابة الرواية البوليسية وأدب الإثارة والتشويق وأدب الجاسوسية والمخابرات) هما المرحوم محمود سالم، والكاتب الكبير صالح مرسي مؤسس ورائد أدب الجاسوسية بأعماله الرائعة «دموع في عيون وقحة» و«رأفت الهجان» و«الحفار»، وغيرها من الأعمال التي ما زالت تحظى بمقروئية عالية، رغم مرور عقود على ظهورها لأول مرة.

نرشح لك: نبيل فاروق.. رجل المستقبل

(3)

ما سبق كان إطلالة سريعة على صاحب روايات مصرية للجيب الذي اقترن اسمه باسمها وتاريخه بتاريخها، أما عني أنا وذكرياتي مع الاثنين (الروايات ومؤلفها الراحل الكريم) فتبدأ وأنا في الثامنة من عمري؛ وكنت تلميذًا بالصف الثالث الابتدائي. ولطالما رددت في مناسبات عديدة ولقاءات مع شباب في ندوات وفعاليات ثقافية أن أول اسم تتعرف عليه ذاكرتي، ويكون معبرها المباشر إلى القراءة كخبرة وممارسة يومية حياتية؛ مثل الأكل والشرب والتنفس، كان نبيل فاروق برواياته وسلاسله المتعددة ضمن “روايات مصرية للجيب”.

كان بجوار مدرستي مباشرة – أبو الهول القومية المشتركة؛ إحدى أعرق وأكبر مدارس محافظة الجيزة تخرج فيها أعلامٌ في كل المجالات وعبر أجيال عدة- مكتبة اسمها (مكتبة نور الدين)؛ وأنا مدين بمحبتي (لروايات مصرية للجيب)، والتعرف عليها إلى هذه المكتبة التي كانت تحرص على توفير إصدارات المؤسسة العربية الحديثة (لصاحبها المرحوم حمدي مصطفى)؛ ليس فقط من الكتب الخارجية، إنما أيضًا من إصدارات هذه الكتيبات الصغيرة اللي قد الكف، ومكتوب عليها “روايات مصرية للجيب”؛ وتعرفتُ عليها مع صديقي آنذاك أحمد صلاح زين العابدين، ونحن في الصف الثالث الابتدائي موسم 86 / 87 (ولا تتعجب، فقد كنا نجيد القراءة والكتابة بالعربية والإنجليزية بكفاءة ممتازة) ثم ارتبطنا أكثر فأكثر بسلاسل نبيل فاروق الأكثر جماهيرية ورواجا؛ “رجل المستحيل”، و”ملف المستقبل”، ثم “كوكتيل 2000″، و”بانوراما”، و”زووم”.. إلخ.

وغرقنا “لشوشتنا” في محبة وإدمان روايات نبيل فاروق البوليسية والمخابراتية، التي كنا نتلهف ونتحرق شوقا لمتابعتها شهريا، ولم يكن الواحد منا يعود إلى البيت بعد أن يشتري العدد الجديد قبل أن يقرأه كاملا حتى لو اقتضاه الأمر أن يجلس على الرصيف، وينتهي من الرواية قبل أن يُفيق من سحر عالم المغامرات والمواجهات الساخنة، والتنقل بين عواصم العالم أجمع على أجنحة الخيال والمطاردة والأكشن الذي ليس له مثيل!

ولا أنكر أبدًا أن هذه الروايات قد لعبت دورا غائرا في توجيه مشاعر الشباب بعاطفية نبيلة وجياشة تجاه فكرة الانتماء الوطني وعقيدة الدفاع عن الوطن والتضحية في سبيله بكل غال ونفيس، وأصبحنا نعيش أحلامنا وخيالاتنا مع “أدهم صبري” رجل المخابرات المصري الذي لا يقهر، ورفيقته الفتاة الجميلة الرقيقة منى توفيق التي بكينا على ما ظنناه وفاتها في الثلاثية الشهيرة (الأعداد 42، 43، 44) وعلى قدر وقاري ورصانتي وأنا صغير وعدم انسياقي للإعجاب الشديد بمطرب أو نجم من النجوم الذين كانوا يخلبون لب أصدقائي وزملائي آنذاك فلم أقتن بوسترا ولا اشتريت صورا لأبطال خياليين كي أعلقها على حائط حجرتي الصغيرة وعلى ظهر باب الغرفة سوى صورة أدهم صبري وحبيبته منى، وكلاهما كان عندي في أعز مكان في وجداني وخيالي البكر البري آنذاك.

ثم نعبر أنهار الخيال مع فريق نور الدين العلمي الجبار الذي يسافر عبر الزمن ويسقط في هوة النسيان، ويقاوم الغزو الفضائي للأرض ويكتشف البطل الخارق (س-18) الذي كان هدية صناع أتلاتنتس إلى الفراعنة الأفذاذ.. وتتوالى الأحداث والمتعة والانغماس الكامل في القراءة التي أصبحت عادة وطقسا مثل الأكل والشرب والنفس..
وكنا نتبارى في نقل الهوامش أسفل الصفحة التي كان يمتعنا نبيل فاروق بها؛ معلومات في الأدب والتاريخ والجغرافيا والفلك والعلوم والطب.. إلخ (طوّر نبيل فاروق توظيفه لهذه المعلومات الأولية والمعارف الموسوعية في سلاسل أخرى أطلق عليها أسماء مثيرة مثل «زووم»، و«كوكتيل 2000» و«بانوراما»).

نرشح لك: النبيل والعراب.. جعلا الشباب يقرأون

 

(4)

أذكر أنني خصصت كراسة وحدها كنت أزينها بغلاف زاهي اللون وأضع عليها “تيكيت” أكتب عليه بخطي “كراسة معلومات نبيل فاروق” أتحرى الجمال والإتقان في النقل، وأستعين بهذه المعلومات الوافرة في إعداد برامج الإذاعة الصباحية (هل تعلم؟ ومن أجندة التاريخ ومن سجلات المعرفة… إلخ) ومجلات الحائط المدرسية، وكانت هذه الكراسة تقريبًا السبب الذي جعلنا “فريق المدرسة” نكتسح كل المسابقات التي تنافسنا فيها على مستوى الإدارات والمديريات والقطاعات التعليمية وصولا إلى حصد الجوائز الأولى على مستوى المحافظة.

في مرحلة تالية وصلت فيها روايات مصرية للجيب أوج نجاحها وانتشارها في أواخر الثمانينيات؛ أصبح نبيل فاروق ماكينة كتابة بالمعنى الحرفي؛ وأصدر فعليا ما يزيد على 6 سلاسل في وقت واحد؛ والغريب أن كلها استقبلت بحفاوة ونجحت بدورها نجاحا كبيرا لا يقل عن سلاسله الأصلية («رجل المستحيل» و«ملف المستقبل» و«زهور» و«عين في اثنين»).

ثم كان ظهورُ الجزء الأول من روايته «أرزاق» التي كتب على غلافها الخارجي هذه العبارة “رواية اجتماعية طويلة” وكانت تنشر مسلسلة عبر الأعداد الأولى من سلسلة (كوكتيل 2000)، حدثا جماهيريا في أوساط متابعي نبيل فاروق، وقد كان ذا شعبية وجماهيرية غفيرة ليس في مصر وحدها بل في كل أنحاء العالم العربي، تقريبا لم يراسله قارئ صغير من قرائه إلا ورد عليه وأورد اسمه في قسم الردود والخطابات، تعلقنا به وصرنا نتتبع كتاباته ونشاطه طوال ما يقرب من خمس سنوات لم يكن ينافسه فيها أحد.

حينما التقيت الدكتور نبيل فاروق ذات مرة سعد جدًا عندما أخبرته بذكرياتي تلك، وأيضًا بعد ذلك عندما التقيت المرحوم أحمد خالد توفيق صاحب سلسلة “ما وراء الطبيعة” التي قرأت منها أعدادًا يسيرة، ثم انصرفت عنها بعد ذلك لاهتماماتٍ أخرى.. رحم الله نبيل فاروق وأسكنه فسيح جناته.

نرشح لك: 11 تصريحا لـ ريهام نبيل فاروق.. أبرزها عن يوم وفاة والدها