كيف انتظرت نوارة نجم كل هذه السنوات دون أن تحكي؟ على الأرجح، وُلدت نوارة حكاءة، لكن أحدهم قال لها: "لقد تم حظرك". تركيبة نوارة التي يمكنك التعرف عليها لو قرأت كتابها الأهم "وأنت السبب يابا" عن دار الكرمة، هي مزيج من حاولت الدنيا حظرها لكنها قررت ألا تركن للأمر، بل وأن تحظر كل ما يغيظها ويعيقها عن مزيد من الحياة رغم الوجع، ورغم الاشتباك، ورغم الإرث في الاسم والصفات.
هي طبيعة مختلطة بين شاعر كبير شرس مقاوم، فاجومي بسيط، منطلق اللسان والمشاعر، وكاتبة ناقدة قوية ضد كل تيار. فيها من صلابة الأصل وصرامة الصفات، وتقلبات المزاج، وسخرية ذكية تجرح دون أن تظهر ندوبًا. ثم هناك رغبة حقيقية في الخروج عن كل ذلك في صداقات مختلفة، واشتباكات مع الزمن، ومعارف متنوعة.
كانت ثورة بالنسبة لها منفذًا، وأموات مروا أمامها، ومشرحة قضت فيها أكثر مما قضت في بيتها في تلك الفترة. شخصيتها ثرية جدًا، حتى أوجاعها تفيض بسخرية، وسخريتها مليئة بالوجع. وخفة دمها تحفظ موهبتها من انتهاء تاريخ الصلاحية، الذي يظل ممتدًا طالما ظلت محافظة على هدوئها النفسي، الذي تعوض فيه خناقاتها مع العالم بخناقاتها مع ميخا، الشهير بمارك زكربيرج.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: لو كان المتنبي متعقّلاً
هذا المدخل مهم لفهم نوارة، التي قد يكرهها كثيرون لمواقف سياسية تركتها وطلقتها، ووجدت براحًا وأكسجينًا في حكي راقٍ مذهل بدأته بعلاج ذاتي عن علاقتها بأبيها في كتابها الأهم. واستكملته في روايتها الأولى "لقد تم حظرك"، الصادرة عن دار الشروق، حيث دراما المكان الواحد لشخصيات ذهبت لمباحث الإنترنت لتبلغ عما يهددها. الكل مهدد في رواية نوارة، وعبارة "لقد تم حظرك" لم تأت من الشخصيات المكافئة وإنما من الحياة نفسها.
كلهن نوارة بشكل أو بآخر، عبر كاميرا ذكية (بيلت إن)، وجدت في الكاتبة التي قابلت هذه الشخصيات أو لم تقابلها، لكنها نفخت فيها من روحها، فصارت شخصيات نتعاطف معها. نوارة تتعاطف مع شخصياتها، ولا تريد حظرها أبدًا، وتعطي مبررات لكل الشخصيات: سحر، ناهد، ليلى، روحيا، ممدوح، وحتى هشام ونشوى. تتعاطف نوارة مع نموذج الأم مهما كانت قاسية أو مقصرة أو حادة الطباع أو أنانية، بحثت عن سعادتها على حساب أولادها.
تعطينا مسقطًا أفقيًا لمتحف شخصيات تواجدت في قاعة واحدة، وكانت مهارتها في الفلاش باك والبناء النفسي للشخصيات تليق بمحلل نفسي على أعلى طراز. وصف نوارة للشوارع لا يختلف عن وصفها للمشاعر الإنسانية، والقاسم المشترك أنها لا تريد لأحد أن يبقى محظورًا.
الحكي الداخلي للشخصيات، والاستعانة بمصطلحات الإنترنت والسوشيال ميديا في بعض الأحيان، وحتى العلامات البصرية في التنفيذ الداخلي للصفحات، والغلاف الرائع للفنان الكبير أحمد اللباد، كلها علامات لعمل مكتمل. استقبال رائع لكاتبة كبيرة ستظلم نفسها كثيرًا لو لم تستكمل مشروعها الحقيقي: الكتابة.
رأيت نوارة كاتبة كبيرة، وأنتظر أن يرى عملها الأول النور في عمل درامي يجب أن تكون نوارة كاتبته أو أحد كتابه. ربما كان المتحف مزدحمًا بعض الشيء، وربما هي محاولات الرواية الأولى التي تجعلنا نريد أن نقول كل شيء، ونشير إلى كل شيء، لكن نوارة فعلت ذلك بمحبة لكل شيء.
مبروك علينا كاتبة كبيرة وحكاءة عظيمة يجب أن تترك كل ما كان يعطلها، وتتفرغ فقط للحكي.. فقط للحكي يا نوارة.