أحمد عبد المجيد يكتب: نبيل فاروق الذي هدهد طفولتنا

فترة التسعينيات كانت العصر الذهبي لروايات الجيب، فبعد النجاح الهائل الذي حققه مشروع روايات مصرية للجيب، صار من المعتاد أن نذهب لبائع الجرائد فنجد لديه كتيبات جديدة لمؤلفين لا نعرفهم، من إصدار دور نشر لم نسمع عنها من قبل، وعناوينها ورسوم أغلفتها تدل على أنها تحوي مغامرة بوليسية أو جاسوسية. والسبب الأول والأهم في نجاح مشروع روايات مصرية للجيب بلا شك كان نبيل فاروق!

في بداية التسعينيات سينضم إليه أحمد خالد توفيق، لكن منذ بداية المشروع عام 1984، وحتى بداية التسعينيات، كان نبيل فاروق يحمل المشروع فوق كتفيه وحده، من خلال عدد كبير من السلاسل التشويقية.

نرشح لك: ذكرى ميلاد نبيل فاروق.. ملف خاص


وفي رأيي أن أفكار الخيال العلمي التي قدّمها نبيل فاروق عبر سلسلة “ملف المستقبل” بالذات، وكذلك روايات الخيال العلمي في سلسلة “كوكتيل 2000″، كانت أفكارًا طازجة وممتعة، والغريب أن السينما العالمية في أفلام حديثة كانت تتناول طرفًا من تلك الأفكار، فالألعاب الزمنية التي وقعت في فيلم Interstellar شاهدناها في العدد 59 من ملف المستقبل “جحيم أرغوران”، عندما سافر نور وسلوى بسرعة الضوء إلى كوكب أرغوران ذهابًا وعودة، وقضيا هناك عدة أيام، فلما عادا وجدا أن سنتين قد انقضيتا على الأرض.

وضياع الأب في الفيلم بين الأزمان يشبه ما حدث لمحمود عندما ضاع في مجرى الزمن وظل يتواصل من هناك مع أصدقائه. وفي مسلسل يوسف الشريف “النهاية”، الذي عُرض في رمضان 2020، كان انفجار القنبلة الكهرومغناطيسية التي قضت على جميع مظاهر الحضارة في الحلقة الأخيرة، شبيهًا بانفجار قنبلة جاما في العدد 80 “النصر”، والتي قضت ليس على الحضارة فقط، بل كذلك على وعي البشر وأعادتهم للهمجية.

ومع ذلك، لم تكن كل الأفكار التي طرحتها السلسلة تندرج تحت بند الخيال العلمي، فهناك أفكار فانتازية تم طرحها ومحاولة وضعها في إطار علمي، مثلما حدث في العدد 50 “الأسطورة”، والذي دارت أحداثه في كوكب جمع شخصيات أغلب الأساطير الإغريقية والمصرية، فمثلًا هناك مخلوقات على شكل أبي الهول: رأس إنسان وجسد أسد، وأشياء من هذا القبيل، وكان العدد يحاول تفسير وجود تلك الشخصيات في الفن المصري والإغريقي: لأنها موجودة فعلًا عندما زار سكان ذلك الكوكب الأرض في فترة من الفترات!

وأيضًا في رباعية ابن الشيطان، عندما خاض نور وفريقه صراعًا مريرًا ضد نصف شيطان، أبوه إبليس وأمه بشرية، فهو نصف إنسان نصف شيطان!

السلسلة كذلك سعت لتفسير الكثير من الظواهر الغامضة، مثلما حدث في العدد 42 “الأرض الثانية”، والذي حاول تفسير ظاهرة مثلث برمودا، عندما اختفى فريق نور في المثلث ووجدوا أنفسهم ينتقلون لعالم موازٍ انتصرت فيه ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وصارت تتحكم في العالم! أما في العدد 28 “النهر المقدس”، فنكتشف أن الأطباق الطائرة التي يراها البعض من آن لآخر ليست سوى المركبات المتقدمة التي يستخدمها الفراعنة الذين يعيشون تحت الأرض!

بل إننا في العدد 48 “سجن القمر”، نكتشف أن سكّان جوف القمر هم مخلوقات مجنحة على شكل الملائكة، وأن القدماء كانوا يتخيلون الملائكة ويرسمونها مستلهمين شكل تلك المخلوقات، بعد أن زاروا الأرض قديمًا. أما الشياطين بأشكالها المعروفة في الصور، والتي تتخذ شكلًا أقرب للوطاويط، فالسبب في ذلك نعرفه في العدد 70 “الستار الأسود”، عندما نكتشف أن تحت الأرض مخلوقات أشبه بالوطاويط تعيش هناك، ومنها استلهم القدماء فكرة أن الشياطين تعيش تحت الأرض وأشكالها هكذا.

نرشح لك: ياسمين الجندي تكتب: رسالة إلى صديق العمر نبيل فاروق


لدرجة أنني بعد قراءتي لتلك الأعداد ظننت أن هدف نبيل فاروق من السلسلة هو تقديم تفسير علمي مقترح لكل الظواهر الغامضة في العالم!

لم يكن الخيال العلمي هو المنجز الوحيد لنبيل فاروق، فقد كتب كثيرًا جدًا في أدب الجاسوسية، وقدّم شخصية أدهم صبري، ضابط المخابرات الخارق في سلسلة “رجل المستحيل”، والذي صار شخصية أيقونة في ذهن كثير من القراء العرب، لا أحد من الأجيال الجديدة سيقول لصديقه: أتظن نفسك جيمس بوند؟ في الغالب سيقول: أتظن نفسك أدهم صبري؟

في الفيلم الكوميدي “لا تراجع ولا استسلام” عندما يعرف زعيم العصابة – يقوم بدوره عزت أبو عوف -أن ساعده الأيمن- أحمد مكي، الذي يقوم بدور شخص اسمه أدهم، استطاع التغلب وحده على عصابة حاولت الإيقاع به، يقول له مادحًا: “أنت أدهم صبري!”

نرشح لك: إيهاب الملاح يكتب: نبيل فاروق.. وتأسيس شغف القراءة!


وهذا يعني أن نبيل فاروق نجح في تحقيق حلمه الذي بدأ كتابة السلسلة مدفوعًا به، أن يصنع شخصية بطل عربي بديلة عن الشخصيات الغربية. لكنه مع ذلك وقع أسير عقدة أدهم صبري، فكثير من شخصياته الأخرى بدت وكأنها ليست سوى إعادة تجسيد لشخصية رجل المستحيل ولكن بأشكال مختلفة، فشخصية فارس في سلسلة فارس الأندلس هي شخصية فارس عربي شاب يقاتل القشتاليين قبيل سقوط غرناطة، وتم تدريبه منذ صغره على مهارات الفروسية المختلفة: القتال بالسيوف والرمي بالرماح والسهام وامتطاء الجياد إلخ، وهو في كل هذا بلغ الذروة، لدرجة تُذهل أصدقاءه قبل أعدائه. والده لقى مصرعه في صغره على يد القشتاليين، فقام مهاب صديقه بتربية فارس وتدريبه. هذه الملامح العامة لشخصية فارس وتاريخه تنطبق تقريبًا على شخصية وتاريخ أدهم صبري!

ونفس الشيء يتكرر -لكن بتفاصيل مختلفة- مع شخصيات أخرى، كشخصية العقرب نديم حلمي وشخصية فاي في سلسلة “كوكتيل 2000”. وحتى شخصيتا نور الدين في سلسلة “ملف المستقبل”، وسيف الدين في سلسلة “سيف العدالة”، ليستا سوى نسخة مستقبلية من أدهم صبري، فهما مقاتلان فذان لا يمكن هزيمتهما في قتال يدوي، لكنهما يفرقان عن أدهم في أنهما يستخدمان – تبعًا لطبيعة سلسلتيهما – أدوات تكنولوجية في مواجهاتهما.

شخصية البطل عند نبيل فاروق هو بطل السير الشعبية التقليدي: شخص مثالي إلى أبعد حد، يجيد كل المهارات الممكنة، وهو الأفضل في كل شيء: يمكنه فعل كل شيء، ولا يخشى أحدًا إلا الله، ويتحلى بكل الأخلاق والقيم العليا، وسيم يصعب على النساء -سواء عدواته أو صديقاته- ألا يقعن في حبه.. هو باختصار شخص وصل درجة الكمال البشري في مجاله، إن كان رجل مخابرات فهو أفضل رجل مخابرات في العالم، إن كان فارسًا فهو أفضل فارس في التاريخ، وهكذا. هذه الصورة التي رسمها نبيل فاروق على مدى سلاسله التي ظل يكتبها لما يزيد على ربع قرن؛ كان لها أثر بالغ علينا، فكثيرٌ منا تعلق بهذه الصورة وحلم بالوصول إليها في طفولته ومراهقته، وكان الوصول لها أمرًا شبه مستحيل!

أيضًا من الأشياء التي زرعها فينا نبيل فاروق عبر رواياته الصورة شديدة المثالية للعرب والأجهزة الأمنية، ففي سلسلة فارس الأندلس مثلًا، ورغم أن العرب في الأندلس كانوا يعيشون أيامهم الأخيرة، ويعانون من الضعف والخيانة، لكنه أظهرهم بصورة مثالية، جعلتني أتساءل وأنا أقرأ السلسلة في طفولتي: لماذا سقطت الأندلس إذن؟ أما في سلاسل رجل المستحيل وملف المستقبل وع×2 وغيرها، فرجال المخابرات والشرطة والمسؤولون الحكوميون -وزراء ومدراء مخابرات وغيرهم- كانوا يظهرون في غاية المثالية والنقاء. هذا الأمر حمل جانبًا إيجابيًا وآخر سلبيًا، فمن ناحية نمّت روايات نبيل فاروق شعور الانتماء والحسّ الوطني لدى الشباب -شخصيًا ظللتُ طوال طفولتي وبداية مراهقتي أحلم بأن أكون ضابط مخابرات- لكنه على الجانب الآخر بالغ في رسم تلك الصورة الوردية لنا، حتى بدا وكأننا نتحدّث عن ملائكة لا يخطئون، لذلك عندما كبرنا كانت صدمتنا بالغة عندما وجدنا أن الصورة ليست بهذا النقاء الذي كنا نظنه.

والشخصيات في روايات نبيل فاروق في الغالب تكون أحادية الأبعاد، فالطيب سيكون طيبًا بشكل مطلق، يعتنق مبادئ الخير والحق والجمال، ومثالي لأبعد الحدود، والشرير شرير بشكل مطلق، يمكنه أن يرتكب أي نقيصة مهما كانت، ولا حدود لشره ودناءته. إذا وجدتَ شخصية في بداية إحدى الروايات تبكي وتشعر بالخوف، فأعلم أنها ستظل تلعب هذا الدور للنهاية، الأمر أشبه بالأقزام السبعة في قصة سنوهوايت: أحدهم غاضب، فهو غاضب طوال الوقت، وأحدهم كسول، فهو كسول طوال الوقت، وهكذا.

الاستثناء الوحيد من هذا هم الشخصيات الرئيسية، والذين تم بناء شخصياتهم على مدار عشرات الأعداد.

بالطبع كل هذه الملاحظات انتبهت لها عندما كبرت، أما في صغري فلم أكن منتبهًا سوى لحجم المتعة والعوالم المتعددة التي وضعها نبيل فاروق بين يديّ، وملأ بها رأسي الصغير، معه قضيت طفولة ماتعة زاخرة بالخيال والقيم المثالية، إنتاجه الغزير جعلني أحب القراءة لأتمكن من متابعته، وأسلوبه -الذي قد أنتقده الآن- هو أول أسلوب تأثرت به، واستفزني لأحاول الكتابة، وأبدأ رحلة طويلة ما زلت أستمتع بالمضي فيها حتى الآن.

نرشح لك: رجل المستحيل.. هل يعود أدهم صبري مثلما فعل رفعت إسماعيل؟