أنا عشقت.. مصر الجميلة النائمة تنتظر فارسًا من غبار

محمد سمير ندا

طالما استحضر الروائي الكبير محمد المنسي قنديل، الوطن في صورة المرأة، وألقى على المرأة ثوب الوطن وقداسته، ولعله بذلك يعكس إيمانه الراسخ بتشابه المرأة والوطن في الكثير من الحيثيات، فهما الملاذ، وهما السكن، وهما البديل اللفظي والوجداني للاغتراب، وهما جدار أخير دون الزود عنه الموت والضياع. يمكن اعتبار هذا الأمر أحد التيمات الرئيسية في نصوص المنسي قنديل، إلا أن خبيرًا روائيًا ككاتبنا، لا يكرر من الصور، ولا يسمح لها بأي تشابه أو تماس في مدارات نصوصه.

يقتبس المنسي قنديل عنوان حكايته من دور للشيخ سيد درويش ورد في استهلال الرواية: “أنا عشقت وشفت غيري كتير عشق … عمري ما شفت المرّ إلا في هواك
وكم صبرت ما كانش فيه يوم نتفق … مع إن قلبي كان أسير يطلب رضاك

نرشح لك: قنديل.. العاشق للتاريخ والباحث عن الهوية


كلمات تحمل في ظاهرها عتاب العاشق للمعشوق، عتاب لا يخلو من لوعة الشوق والتوق إلى الوصال، ولكن؛ بإزاحة أستار الحكاية، وفك أزرار سريتها، تنقشع الأحبار كاشفة عن صورة أشمل للعشق، عشق الغريب للوطن، عشق التائه للسُكنى، عشق المهزوم للنصر، وكلها مترادفات للعشق الأشمل، عشق الكاتب لمصر، فكيف رمّزت لنا هذه الحكاية لوعة العاشق، وأقدار المعشوقة؟

عقب الصفحات الأولى، استعدتُ من ذاكرة الطفولة حكاية “الأميرة الجميلة النائمة”، استحضرتها في صورتها الكرتونية فيما تقضم تفاحة مسمومة، لتسقط في سبات طويل، لا يفلح معه علاج سوى لمسة من الأمير الغائب، لمسة أو قبلة أو عناق، المهم أن الأمير الغائب هو المخلص الوحيد، بحضوره تستعيد الجميلة النائمة حياتها، وفي غيابه استمرار لجمودها.

مصر في 2011، كانت هي الأميرة النائمة، المتجمدة، تلك الجميلة التي تجرعت سموم الفساد وتنشقت بارود الحروب وحُقنت بكل أنواع المسرطنات طيلة ستة عقود، وقفت جامدة على شفا ثورة، أنهك قلوب الحالمين مرآها فيما تذبل في العراء، محاطة بخواء لا تقاطعه غير نظرات العابرين، غير المبالين بمآلها، فانطلق أحدهم في رحلة تسيجها رومانسية الحلم ورهافة العشق، بحثًا عن المخلص، عن الأمير الغائب، القادر على أن يعيدها إلى الحياة بلمسة واحدة، البطل المنتظر، الذي تفرّ لمرآه الكلاب الطامعة، جارّة أذيالها بين ساقيها.

فهل نجح الحالم/الثائر في انقاذ الأميرة النائمة/الوطن المتجمد؟

– أنماط الشخوص ومسار الحكاية

تتجمد “ورد” على رصيف المحطة إثر رحيل فارسها، حمل متاعه ورحل في قطار يشق الأرض والزمن في اتجاه معاكس لمشاعرها، لتتحول الفتاة إلى تمثال حي، كل ما فيه ميت إلا قلب ينبض بأمل خافت، يظهر بين الوجوه وجه شاب حالم، يرمز إلى جيل أنهكه استشراء اللامبالاة والتغاضي عن سيل لا ينقطع من المآسي، هو الطبيب “علي”، البطل الدائم لحكايات المنسي قنديل، هو ذات الطبيب المنكسر في انكسار الروح، وهو المكتشف ومتقصي أثر الماضي في قمر على سمرقند، وهو ذات الطبيب الذي عاد إلى انكساره مؤخرًا في طبيب أرياف، ولكن “علي” هنا، يقف في فترة مفصلية من التاريخ، يقرر أن يفعل شيئًا. ينبغي هنا أن نفرّق بين زمن الحكاية وزمن الكتابة، فالحكاية وفق خلفيتها الإخبارية تدور في عام ٢٠٠٧، ولكن زمن الكتابة معاصر وموازٍ للثورة، وهو ما يفتح أمامنا مصاريع التأويل والتفسير.

ولكي يعثر الطبيب الشاب على ضالته، “حسن الرشيدي”، حبيب “ورد” وأميرها الغائب، يتوجب عليه أن يغوص في دهاليز مدينة لم يرى يومًا سوى ظاهرها، كان عليه أن يصل النقاط صانعًا خيطًا رفيعًا يصله بضالته، مرتحلاً بين وجوه عامرة بالحكايات.

قدم لنا المنسي قنديل في هذه المرحلة المبكرة من النص ستة نماذج أو أنماط تمزج الواقع بالخيال السحري، ولعل أكثرها ثراءً شخصية “عزوز”، المهرج العجوز الذي ما عاد يضحك أحدًا، بعدما امتصت كآبة المدينة روحة المرحة، فنضبت نكاته وانتقلت إليه عدوى الحزن الموشوم على صفحات الوجوه؛ شعرتُ بتعاطف كبير مع هذه الشخصية وتصورت أنها تستحق رواية منفصلة يستفيض فيها عزوز في قصّ حكايته، حكاية عشق وانكسار أخرى من حكايات المنسي قنديل، ولكنها حكاية تفيض بمشاعر الفقد والضياع ولوعة الغرام الممنوع، وهي في حد ذاتها -حكاية عزوز- تعد تجسيدًا لما ذكرته في الاستهلال، فحين هجر عزوز السيرك المتجول أملاً في امرأة يختصها بكل ألعابه وضحكاته، امرأة تقبل بوجهه الحقيقي خلف الألوان والمساحيق، ثم كان أن وأدت الأعراف الحكاية في مهدها؛ فقد المهرج الوطن، وظل رحالًا يقتفي أثر الذكرى، ويجتر لحظات الغرام، قبل أن يحتمي من الواقع بالغوص في قلب الزمن المنسي.

نرشح لك: منير عتيبة يكتب: التجمد قهرا في رواية “أنا عشقت”

شخصية ثرية أخرى توجه لها الطبيب “علي” في مستهل رحلته المستحيلة، ألا وهي شخصية الدكتور “أمشير” الطبيب الشرعي، العجوز والسكير، الذي يُلقي بطرف أول خيوط الحكاية، وإن لم يلتقط “علي” طرف الخيط، فقد التقطته عيناي من كلمات “أمشير”، حين راح يهوّن من شأن مأساة الفتاة المتجمدة، فراح يناظر مجاوريه من رواد المقهى، قبل أن يقول:
“ومن أدراك أننا لسنا كذلك؟ ما أدراك أن كل الذين يجلسون حولك في المقهى ليسوا موتى؟ المصريون الأحياء اختفوا منذ زمن بعيد، لم يعودوا قادرين على بناء المعابد أو زراعة الوادي أو إقامة الجسور، ما الغرابة في أن تتجمد فتاة صغيرة ويُسلب منها رحيق الحياة حين يفارقها حبيبها؟ على الأقل هناك سبب منطقي، نحن جميعًا متجمدون وموتى دون أي سبب ظاهر”

بضفاف حكاية فقد وانكسار أخرى بطلها “جمعة” ناظر المحطة، ونظرات ذئب تطل من أعين الضابط الطامع في جسد الفتاة/الوطن وقد وجدها جامدة مستسلمة؛ يمضي مسار الحكاية كقطار من الحكايات، يقفز فيه الطبيب الشاب من عربة إلى عربة بحثًا عن أثر الأمير الغائب، يمشي على الحبل المشدود بين معارف وأصدقاء “حسن الرشيدي”، فينتقل من “عطية الزماني”، الحلاق الثرثار وخازن النمائم ومرسال الهوى، إلى المخبر “محروس”، نموذج رجل الأمن الذي تختلط في ثنايا عقله مفردات العنف بالعطف، والحماية بالوشاية، وصولاً إلى عزوز المهرج، الذي قصصتُ شيئًا يسيرًا من حكايته. في نهاية هذه المقدمة التي احتلت ثلاثة فصول من فصول الرواية التسعة، يقرر “علي” السفر إلى القاهرة، بحثًا عن مُراده الضبابي في مدينة عُرف عنها ابتلاع الغرباء.

– تحولات في مسار الحكاية

في الفصول الستة التالية، نستكمل الحكاية عبر خمسة رواة، أولهم “علي”، الذي ينتقل إلى القاهرة مطارِدًا شبح “حسن الرشيدي”. تستقبله القاهرة بأقبح وجوهها في عشش قلعة الكبش، تكاد المدينة الفظة أن تلتهمه بتلذذ ونهم، ولكن فتاة أخرى تهون شيئًا من عناء المسير، “سمية يسري”، الفتاة الجامعية التي تسلبها المدينة طهرها وتدنس ثوب براءتها، تساعده سمية بعدما تلحظ بعينها الخبيرة فرط براءته وسذاجته. يلتقي “علي” بـشخصية أخرى لا تقل ثراءً عن شخصية “المهرج عزوز”، وأعني هنا “عبد المعطي خريج السجون”، هكذا أسماه المنسي، وهكذا هو في الواقع، عاشق آخر زُج به في السجن إثر حكاية تترك القارئ في حيرة تجاه صاحبها، فهل كان عبد المعطي هو العاشق المتيم الذي عشق حجرًا، أم أنه رجل مخبول تصور الحجر بشرًا، أم أنه سارق، أم هو محض مغفل استغله صديقه الفخراني وقد مسه بدوره سحر الحجر والزمن. بتوالي اعتلاء الشخصيات لمسرح الحكاية، وتقاسم مساحات السرد، يضع أمامنا المنسي قنديل وصفًا دقيقًا لمسببات المرض، وتفسيرًا قويمًا للشروخ والندوب التي راحت تسرح في صورة البطل المفقود حتى شوهته، وأحالته إلى شبح بطل، أو إلى بطل من غبار.

ما بين حكاية “سمية”، تلك الفتاة الثائرة التي تفشل في تحرير أفكارها فتستعيض عن ذلك بتحرير جسدها، وحكايات موازية لـ “ذكرى البرعي” و”أكرم البدري”، نتعرف على الحكام الحقيقيين والأصليين لهذا البلد، أولئك الذي يمتصون أحلام الشباب، ويدنسون ثوب الحلم الأخضر، ويجتثون أحلامهم في طور التكوين.

يصل علي إلى ضالته، ينتهي به السفر في جب سحيق، طاف الطبيب الحالم العالم بحثًا عن خلاص لأزمة مستعصية، جال بين الأزمان، وترك بصماته في قلب معابد اليهود، وأديرة المسيحيين، ومساجد المسلمين، لم تأته الإشارة في دور الله، ولم يجد فيها سوى شموع واهنة أو رسوم جدارية باهتة، أو شيخ كاذب يضلل التعساء ويسلمهم إلى سلطات الأمن، اكتملت الأضلاع حول “علي”، فدور الله إما مهجورة وإما مستخدمة في غير مقصدها، والفساد ضارب بجذوره في سواد الأرض، والسلطة لا تعرف سوى البطش والقمع كلغة دائمة لحوار لا يكتمل، يقف الطبيب الحالم بتغيير مصير الفتاة المتجمدة أمام شبح الفارس، ولكنه لا يجد الحبيب الذي وشمته “ورد” خلف جفنيها، فـ “حسن الرشيدي” الذي يقف أمامه هو شبح باهت للصورة الأولى، رجل فاسد أعملت فيه المدينة مباضعها، ما بين تعذيب وتشويه وسجن وقتل، فصنعت منه مسخًا يناسب الوضع الراهن، ولا يليق به ثوب الأمير والمخلص.

جاء رسم الشخصيات بارعًا، كل شخصية تمتلك من التاريخ والخلفيات ما يمنحها أبعادًا ثلاثية، الوجوه مجسمة بارزة والأصوات مختلفة، والنسيج شديد الوضوح والإحكام، سواء كانت الشخصيات أساسية ومؤثرة في مسار الحكاية، قوية الحضور في فضاء السرد؛ مثل سمية وحسن وأكرم وذكرى، أو حتى الشخصيات التي مُنحت مساحات أقل تأثيرًا، على غرار جمعة ناظر المحطة، وعزوز، وعبد المعطي. كانت كل الشخصيات من لحم ودم، فيما عدا الشخصين الرئيسيين؛ “علي”، و”ورد”!

جاءت شخصية “علي” أحادية البعد، هو متفاعل مع الحدث، مدفوع بالحلم والبراءة والهوى، ولكنه لا يملك تاريخًا خاصًا يمهد للقارئ استيعاب خصائص شخصيته التي تظهر منذ البدايات، وهو أمر أجد أن الكاتب أراد به خلق حالة من التعميم، فالطبيب الشاب، “علي”، يمكن أن يكون أي شخص، أنا وأنت وهذا وذاك، منحه المنسي قنديل وجهًا يشبه كل الوجوه، ونقاط تماس تجمعه بملايين المصريين الشبان، كالبراءة والفقر والحلم، والصدمة التي تعصف به فور مواجهته لأول معايشة لواقع الحياة. أما “ورد”، فلم يكن هناك من داعٍ لأن يكون لديها تاريخ خاص، فهي الرمز الحاضر، والمحرك الخفي للأحداث، يكفي أن نعرف أنها عاشقة مهزومة، تخلى عنها الجميع، وكفى.

– التكنيك السردي

استهل المنسي قنديل روايته في فصلها الأول بلسان الراوي العليم، الذي راح يسرد لنا الحكاية كما ذاع خبرها بين الناس في مدينته، ثم قام بتغيير التكنيك بداية من الفصل الثاني، فراح يمنح الشخوص مساحة حرية أكبر عبر منحها لسان الراوي، كان “علي” هو الأكثر استحواذًا على السرد، ولكن تضفير صوت الطبيب الحالم بأصوات أخرى لا تنتمي إلى عالم البراءة والحلم الذي جاء منه، كان من عوامل إثراء هذا النص ومنحه أبعادًا إضافية، عبر تمدد مساحة الرؤية المتاحة أمام القارئ ليرى المتناقضات من أكثر من زاوية.

لغة المنسي قنديل لم تعد بحاجة إلى إشارة أو إشادة، نحن أمام سارد متمكن يغزل حكايته من ثوب كلمات يحفل بكل الألوان والأنسجة والصور، أسلوب كتابة هذا الرجل يجعلك تتمنى في كل مرة تهي فيها رواية له: أن يصدر في المرة القادمة رواية من ألف صفحة!

– ما وراء النص

ماذا قدم “علي”/الحالم لـ “ورد”/”مصر”؟

أراد أن ينتشلها من جمودها فسلمها لقاتل شوهت المدينة براءته واجتزتها من جذورها، وعندما حاول أن ينبهها وقد سلمها له بنفسه، كان الوقت قد فات، وباتت تنبيهاته منفرة مزعجة تؤذي مسامعها! أكاد أدعي أن الرواية لو استمرت لبضع صفحات إضافية، لكان لعلي مصير آخر!

رواية أخرى للمنسي قنديل تحمل طاقة هائلة من المشاعر، مشاعر العشق، والفقد، والحلم، والانكسار، والثورة والغضب، هناك الكثير من الصور البديعة التي يسهل التقاطها من بين السطور، والمشاهد التي تتكون في نصٍ مواز يسري خلف ظواهر الأحداث، فبخلاف ثراء الحكايات الغزيرة التي يتراوح أثرها بين المتعة والألم، كمرويات المهرج، وناظر المحطة، والطبيب السكير، ووالد “ورد” الذي تخلى عنها كما تخلى الجميع، ومشاهد حرائق قلعة الكبش، ووصف خوخة اليهود في المحلة، والدير الصحراوي المهجور، وأجواء السجون والأقسام، واحتفالات الفاسدين، ومعارك الأسرّة وشهوة الاستحواذ؛ استوقفتني الكثير من الصور في مشهد العودة، الطبيب الحالم (الذي فقد براءته وسقط إيمانه بمفاهيم الحلم والخير والبراءة) يعود رفقة البطل الوهمي/القاتل، فيما البطل مصابًا ينزف ولا يموت، وفي عربات القطار طيور ضخمة، مأسورة تحاول التحرر من سجانيها، ورجل عجوز يعرف أنه استقل القطار الخطأ، ولكنه لا يجرؤ على مغادرة القطار، وقد فقد كل شعور بالاتجاهات وكل إيمان بصحيح المسارات؛ كان القطار برمته وكأنه حاد منذ اللحظة الأولى عن المسار المأمول، فما حمل الطبيب إلى الفارس الذي تناجي الأميرة لمسة منه، ولا عاد بالفارس الذي يملك سر الخلاص، فهل تكفي هذه الصور لإماطة اللثام عن الحكاية خلف الكلمات؟

واقعية لا تخلو من السحرية، تحمل لقارئها متعة خالصة، لم أستوعبها كما ينبغي في قراءتي الأولى لها عقب صدورها بشهور، كنت أنبش صفحاتها حينئذ بأعصاب عارية، وعيون متحفزة، وقتما كان الإخوان يبسطون سطوتهم على مصر، وأنا أبحث عن تفسير غاب عني بين فصول حكاية يخطأ من يأسرها بين قوسي الغرام والخيال، فهناك، وراء السطور، كان المنسي قنديل يروي الحكاية الحقيقية عن وطن أتقن تنفيذ أمر “محلك سر”، وقطار يحيد عن القضبان.