أحمد عنتر يكتب: عودة إلى الحروف!

كنت أحزم أمتعة الكتابة لأضعها جانبا للأبد، فلا أخوض بعد ذلك غمار الأدب مجددا.. كنت متوجها إلى النسيان غير عابئ بطول المسير المنقضي، فقد هدني التعب بما يكفي وأكل اليأس أطراف أحلامي كالنار إذ تأكل الحطب.

سنوات خداعات قضيتها وأنا أتأرجح على حبال الأمل بين صفحات الجرائد وسطور الكتب، وبين الانتظار الطويل وصدى الرفض الذي يأتي باردا كليالي الشتاء.

نرشح لك: "أبوظبي الدولي للكتاب" يستعرض معروضات نادرة تحتفي بالإرث الإنساني

لم يكن الطريق ممهدا أبدا، مثلما كان مع غيري، بل كان شائكا، موحشا، تكسوه الظلال الثقيلة.. كلما تقدمت خطوة عدت إلى الخلف خطوتين، ووجدتني أتساءل مرارا: هل تستحق الكتابة كل هذه المعاناة؟ كانت الأفكار تفيض بداخلي كأمواج البحر، ولكن حين تأتي لحظة المخاض على الورق، تهرب مني الكلمات مثل طيور أفزعها صوت رصاصة غادرة طائشة.

عملت في الصحافة كمن يرقص فوق جمر مشتعل.. كل مقال وكل خبر كان قطعة من روحي، أضعها بين الناس وعيونهم ونقدهم وتقبلهم.. كنت لا أنتظر ولا أعرف إن كانت ستجد قبولا أم سترتد إلي جريحة، مهيضة الجناح.

ولكني رغم عدم تطلعي لسياق رد أو تجاوب، كان يؤثر بداخلي كل رفض وكل نقد بل كان يترك بداخلي ندبة لا يراها إلا قلبي.. ندبة تضاف إلى سلسلة الندوب التي رسمتها الأيام والأحداث والتجارب المريرة.

وقبل أن أغلق الباب خلفي وأسلم مفتاح الكتابة إلى النسيان، ظهرت زميلة عملت معي سابقا في تجربة كبرى، أرسلت لي عنوان طبيب لابني الذي يعاني تعبا يفوق تعبي مع الحياة، فإذا بها بعد أن شكرتها تلقي ما يغير الآن مسار قراري. كانت كلماتها بسيطة، دافئة، كنسمة ربيعية تعيد الحياة لشجرة شبه ميتة. قالت لي إنها مدينة لي، إذ تعلمت مني الكثير، بل قالت إن أسلوبي في الكتابة كان دوما مصدر إلهام لها تلجأ إليه عند الملمات الصحفية لتستقي منه الوحي الأدبي الذي يُبقي كلماتها حية.

حين قرأت تلك الكلمات، شعرت كمن عاد من سفر طويل إلى بيته القديم، ووجد كل شيء على حاله ينتظر عودته: أقلامي.. أوراقي.. أفكاري التي ظننتها تلاشت في زحام الخيبات.. عادت إلي الرغبة الخجولة، كمن يعيد اكتشاف ذاته بعد غياب.

هكذا، قررت العودة إلى الكتابة مرة أخرى، لكن على استحياء هذه المرة، محملا بخبرات الماضي وندوب المعارك السابقة، وممتنا لتلك الزميلة التي ربما لا تعرف إلى أي مدى غيرت كلماتها البسيطة خارطة أحلامي من جديد.