قُل لي نُصَيرُ وَأَنتَ بَرٌّ صادِقٌ ** أَحَمَلتَ إِنساناً عَلَيكَ ثَقيلا
أَحَمَلتَ دَيناً في حَياتِكَ مَرَّةً ** أَحَمَلتَ يَوماً في الضُلوعِ غَليلا
أَحَمَلتَ ظُلماً مِن قَريبٍ غادِرٍ ** أَو كاشِحٍ بِالأَمسِ كانَ خَليلا
أَحَمَلتَ مَنّاً بِالنَهارِ مُكَرَّراً ** وَاللَيلِ مِن مُسدٍ إِلَيكَ جَميلا
أَحَمَلتَ طُغيانَ اللَئيمِ إِذا اِغتَنى ** أَو نالَ مِن جاهِ الأُمورِ قَليلا
أَحَمَلتَ في النادي الغَبِيِّ إِذا اِلتَقى ** مِن سامِعيهِ الحَمدَ وَالتَبجيلا
تِلكَ الحَياةُ وَهَذِهِ أَثقالُها ** وُزِنَ الحَديدُ بِها فَعادَ ضَئيلا
رأينا أن شعر المناسبات لم يكن بالنقيصة التي تستلزم الصفح أو غض الطرف في الشوقيّات بقدر ما كان فرصة للوقوف على شاعريّة نادرة تستخرج من عابر الأحداث ليس فقط ما يجعله خالداً بل ما يسبغ على الشعر نفسه مضامين فنية خالدة؛ وذلك بتجاوز المحاكمات الأخلاقية التي لا تنال من القيمة الفنية المحضة للعمل الإبداعي، برغم أن شوقي وشعره قد تأثّرا شديداً بتلك المحاكمات، أحياناً لصالحهما وكثيراً في الاتجاه المعاكس.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: ونِعم شعر المناسبات
وإذا كان معروفاً أن بدايات شوقي قد وسمته على الصعيد السياسي منحازاً إلى القصر والسلطة الحاكمة على حساب الشعب، وأنه عاد بعد منفاه شديد الالتصاق بقضايا الجماهير، فإن ذلك الالتصاق لم يمتدّ ليشمل الجماهير نفسها؛ أي أن الشاعر العظيم ظلّ في خاطر جماهيره – حتى بعد أن غفرت له خطيئته السياسية في الانحياز إلى القصر – أرستقراطيّاً منقطع الصلة بجذورها الاجتماعية والاقتصادية؛ ولعل الأدهى – مما لم تكن الجماهير ومَن يتحدّث بلسانها من النخب يتداولونه جهاراً في الغالب في معرض غمز الشاعر الأمير – هو الأصول غير المصرية الصريحة التي تتشابك في عروق الرجل بما يجعله كياناً عضوياً غريباً عنها تماماً.
استلزمت تلك الإشكالية العرقية/السياسية في تكوين شوقي عبقريةً أدبية فريدة كي تنساب معها موسيقاه الشعرية إلى الجماهير في سلاسة، ليس فقط بعد أن طهّر المنفى ذنوبَ الشاعر المطعون في ولائه من قِبل الشعب وإنما حتى بعد أن صالح الشاعرُ جماهيره باندماج فنّي بارع لم ينطلِ غالباً على تلك الجماهير بحيث تعدّه اندماجاً عضوياً خالصاً يرقى إلى ذلك الذي حظي به حافظ إبراهيم الذي شكّل مع شوقي ثنائيّاً شعرياً في الوجدانين المصري والعربي لا أجد شخصياً مسوّغاً فنّياً له بالنظر إلى المسافة/المساحة الفنيّة الشاسعة بين الشاعرين لصالح الأمير المتوّج آخر المطاف، وإن يكن التتويج – المستحق تماماً في تقديري - قد أنجِز حينها بتدابير نخبوية وليس بتفويض شعبي من أي قبيل، بالإضافة إلى كونه لا يشكّل في ذاته الدليلَ الدامغ على عبقرية شوقي الشعرية التي يمكن التماسها ببساطة عبر قراءة أعماله الشعرية دون وسيط.
بالعودة إلى الأبيات التي استهللنا بها الحديث اقتطافاً عن قصيدة قصيرة لشوقي في تكريم بطل رفع الأثقال "المادية" السيد نصير، نجد أنفسنا مجدداً أمام قصيدة مناسبات بامتياز، ونجد أيضاً في القصيدة على قِصَرها ما يؤكّد فرادة الشاعر الأمير أكثر مما يمكن أن يُعاب على قصيدة مناسبات معتادة يزجّ بها إلى أيٍّ من المحافل شاعرٌ مجيد آخر؛ ولا أرى على كل حال في القصيدة – أو غيرها من مناسبات شوقي الشعرية - ما يمكن أن يعاب سوى أن تكون "المناسبة" غرضاً شعرياً كما يرى البعض بحساسية مفرطة لهم الحق في التشبّث بها انطلاقاً من بواعث نفسية صرفة ليس ثمة في معايير الفن الخالص ما يشفع لها بحال.
إذا كانت مقاييس الحداثة وما بعدها تحضّ على نقيض ما توصي به كلاسيكيات النقد والتذوّق الفنّي من حيث قراءة العمل الأدبي بعيداً عمّا يكون قد أثّر بجلاء في إنتاجه والتجرّؤ في استخلاص المضامين المبتدعة من رحم النص إلى حدّ تعمّد إساءة فهمه، فإن شوقي لا ينتظر جمهوره ونقاده حتى يسيؤوا فهم نصوصه طمعاً في استخراج معاني لا حصر لها متوارية بين ثناياها وإنما يبادر هو إلى صدم المتلقّي بما لا مناص من إساءة فهمه ابتداءً؛ وهو هنا لا يكتفي بصدم الجمهور فحسب وإنما يصدم المحتفَى به نفسه ابتداءً.
المقدّمة الودودة في بداية مخاطبة البطل نُصير، وقبلها أبيات الحفاوة والثناء العظيمين في مطلع القصيدة، لا تكفي لتبديد الصدمة اللاحقة التي من شأنها أن تنسف الإنجاز البطولي مجملاً؛ فرفع الحديد عاد عملاً ضئيلاً قياساً إلى الأعباء الوجدانية والنفسية المشار إليها ممّا يمكن أن يكون أيٌّ من الحاضرين قد نهض به أفضل مما فعل البطل العالمي في السياق نفسه، لا سيما مع تكرار الاستفهام "أحملت؟" الذي يبدو منطوياً على التهكّم والاستبعاد، وحتى النفي، أكثر مما هو بغرض الاستفسار البريء بطبيعة الحال.
لكن كلّ تلك الإساءات المتعمّدة لفهم النص لم تحُلْ على الأرجح دون ابتهاج البطل العالمي بالاحتفاء، فلم يغادر الرجلُ الحفلَ غاضباً للتقليل من إنجازه، في حين أحسّ المشاركون جميعاً – ومن بعدهم المتلقّون في كل مكان - بالبطولة وكلُّ واحد منهم يشعر بأنه المقصود في كل بيت يشير إلى حِملٍ من ذلك الطراز المعنوي الثقيل الذي يتيح لكلٍّ منهم وهو يستحضره أن ينعم بدور البطل والضحية في آن.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])