المنسي قنديل.. نسّاج الحكايات والرثاء

أحمد أبو درويش

بعد قرابة خمسة عشرة عامًا كاملة من بدء أول قراءة لي في عالم محمد المنسي قنديل، ها أنا ذا أخيرًا التقيه وجها لوجه.

المنسي قنديل اعتبره كاتبي العربي المفضل، عرّابي الخاص الذي من خلاله تفقدت يدي القلم للمرة الأولى، لأقلده وأصنع قصصا من التاريخ، أتوقف في اتجاه مشهد بعينه، وفي لحظة فاصلة أوقف الزمن لأصنع مثله “لحظة تاريخ”، إنه سحر الكتابة التي تصنع منك إلاها مبدعا.

نرشح لك: صدور طبعة جديدة من “سجين سياسي” لـ محمد منير بمعرض الكتاب 2021

نعم هو ذلك الكاتب، أتذكره جيدا، فبعد أن انتهيت من قراءة العالم السحري لنور الله ولطف الله وعلي المصري وسره الأعظم، في روايته “قمر على سمر قند” أحد أروع سرديات الأدب العربي الحديث، اكتشفت أني أعرف ذلك الكاتب الساحر من أسلوبه الشاعري الفذ، هو ذاته الذي كان يكتب لحظة تاريخ في مجلة العربي، هو ذاته الذي جذبني وبقوة نحو عالم الكتابة، هو ذاته الذي كان يطوف بنا العالم في استطلاعات الجريدة الأفضل في المجال الثقافي العربي. نعم إنه محمد المنسي قنديل. إذن فأنا أعرفه منذ قرابة 15 عامًا!

لم أنس أبدًا حين كتبت أول قصة حقيقية، احتفظ بها حتى الآن عن أحمد بن طولون أسميتها موعد مع القدر، وأذكر كيف أن أستاذا للأدب في دار العلوم، بشّر بكتابتي حين طالع القصة، وقال لي بالحرف: ” أنت أستاذ” وحكى لي كثيرًا عن ذلك الساحر العجيب محمد المنسي قنديل، ودعاني للقراءة له مرات أخرى.

أخيرًا قابلت المنسي قنديل، ملك السرد العربي. لكن كان اللقاء مختلفًا عن بقية لقاءاته التي طالعت فيديوهاتها ما بين التلفاز والسوشيال ميديا، ففي ندوة لتدشين كتابه “وقائع عربية” كان مدير الندوة، الروائي أسامه علام، يطرح أسئلة أعمق مما طرح من قبل، حول كيفية اختياره نصوص التاريخ التي يعيد تلوينها بالدراما، وينفخ فيها من روح قلمه. وحول ذوقه في القراءة وتصنيفه لأعظم الأدباء.

تحدث، للمرة الأولى، عن تنافسه مع كتاب تدب الغيرة داخله حين يقرأ لهم، وعن كتاب لا يسعى إلى منافستهم وآخرين يؤكد للجميع “أنا أفضل منهم”. تحدث عن تعلقه بساراماجو وماركيز وجورج أمادو.

حين اقرأ للمنسي قنديل، اكتشف أنه مهموم بأوجاع البشر، يسطر تاريخا آخر للشعوب بجانب التاريخ المسطر للملوك، تدرك منذ قراءتك الأولى له أن أبطاله تائهون بل ضائعون ومشردون، مغتربون ومنسحقون أمام المجتمع السياسي والتطرف والكره.

سألته، متى يكتب الرواية، هل حينما يأتيه سؤال مؤرق حول البشر والسياسة؟ أم حينما يستحضر قصة بعينها؟

قال إن الأمران سيان عنده فلابد من أن يكون هناك سؤالًا حاضرًا في ذهنه، ولا بد كذلك من أن تكون القصة حاضرة وبقوة ليبدأ في نسج خيوطها.

فطلبت منه أن يحدد من فيهما الأسبق، فقال السؤال يكون أسبق والقصة تأتي لتجاوب عن ذلك السؤال الذي يمثل التيمة العامة للحكاية.

لكني كقارئ مخلص للمنسي قنديل، قرأ غالبية أعماله، متيقن من أنه ينشغل أكثر بالحكاية، هو كاتب مجذوب بالحكايات، مشغول دائما بنسج الخيوط، ربما تعلّم ذلك من أبيه الذي كان ينسج الخيوط. ربما هو الرثاء الذي أخلص فيه عمره كله وفاءً لأبيه الذي كان يجلس بجانبه بعدما افتتح جمال عبد الناصر مصانع الغزل والنسيج، فبات مشغل أبيه فارغا إلا من رجلٍ يجلس وحيدا يغزل خيوطا لا يعرف من سيشتريها فجلب ابنه الصغير ليجلس بجانبه ليقرأ له روائع الأدب العالمي. من هنا من ذلك المشهد الذي حكاه قنديل وعينيه تبللهما الدموع، تعلم النسج وقرأ روائع الأدب العالمي وحكايات التراث العربي، لذلك فإن نسج الحكايات لديه يكتسب شكلا مقدسا كرثاء لأبٍ عظيم انصرف عملاءه ولكنه لم يزل ينسج الخيوط حتى مات وهو يستمع لحكايات ابنه.

المنسي قنديل