"أنا لا أتحرش لكني أعاكس".. قصة من كتاب "سواق توكتوك"

في الحلقة الثانية من هذه السلسلة ينشر “إعلام دوت كوم“، حصريا على فصولا من كتاب “سواق توكتوك” للكاتب والصحفي مصطفى فتحي، رئيس تحرير موقع “كايرو 360″، والصادر عن دار حروف للنشر، وهو كتاب وثائقي يضم مجموعة من الحوارات التي أجراها الكاتب مع عدد من سائقي التوكتوك، مكتوبة بأسلوب أدبي، لتبرز هموم وأحلام أصحاب هذه المهنة وأغرب ما يتعرضون له من مواقف مع الركاب.

نرشح لك: من مدمن للجنس إلى إنسان جديد.. قصة من كتاب “سواق توكتوك”

الحلقة الثانية: أنا لا أتحرش.. لكني أعاكس!

نموذج المراهق المصري “حسين” تكرر كثيرًا أمامي أثناء عملي على هذا الكتاب. عمره 18 عامًا، ويؤمن أن معاكسة الفتيات في الشوارع أمر مختلف تمامًا عن التحرش؛ حيث يعتبر أن معاكسة الفتيات في الشارع ومضايقتهن أمر طبيعي أن يقوم به أي رجل مكتمل الرجولة.

يعمل حسين سائقًا على توكتوك مملوكًا لشخص آخر، وبدأ هذه المهنة منذ أن كان عمره 15 عامًا. ورغم أن القوانين المصرية تمنع عمل الأطفال، إلا أن الواقع في مصر أمر مختلف تمامًا؛ حيث إن غالبية من يقودون مركبات التوكتوك في مصر هم من فئة الأطفال، ولم أسمع أبدًا أن السلطات المصرية قررت اتخاذ موقف من ذلك.

ترك حسين الدراسة بعد حصوله على الشهادة الإعدادية وبعدها مباشرة بدأ العمل، ويقول إنه ترك الدراسة برغبته وأن أهله كانوا ضد هذا القرار وحاربوا معه حتى يكمل تعليمه، لكنه قال إنه كره الدراسة، وأراد أن يبدأ مستقبله المهني مبكرًا، لأنه لا يريد أن يضيع وقته في الدراسة وفي النهاية سيعمل أيضًا في مهنة ليس لها علاقة بشهادته بحسب ما يؤمن به.

“هناك الكثير من سائقي التوكتوك في مصر متعملين، فبماذا أفادتهم الشهادة؟ لا شيء، التعليم في مصر مثله مثل عدمه”. يقول حسين، لكن حين أخبرته أنني مختلف معه في رأيه هذا، أكمل أن “هذا نصيبه من الحياة”. لم أرد أن أقاطع حسين كثيرًا أو أن أقوم بدور المراقب على حديثه أو تصحيحه، تركته يتحدث معي بكل حرية.

مثل مصريين كثر يبرر سائق التوكتوك “حسين” التحرش بأن الفتيات يرتدين ملابس جاذبة للرجل، وإنهن بسبب ملابسهن يستحققن أن يتم التحرش بهن، رغم أنه تحرش أثناء حديثي معه بفتيات محجبات، يرتدين ملابس واسعة وليست ملفتة. وحين لفتت نظره لذلك باعتبار أن الملابس ليس لها أي علاقة بالتحرش، رفض ذلك.

وفي مصر، ينتشر التحرش على نطاق واسع، وهناك منظمات دولية عدة صنفت مصر باعتبارها أكثر بلد غير آمنة للنساء بسبب التحرش، خصوصًا محافظة القاهرة التي يعمل بها حسين. ذكَّرني حسين بحملة عملت عليها منذ سنوات مضت حين كنت أعمل في إحدى المجلات المصرية الشبابية الشهيرة كمدير تحرير. وقتها نفذت مع زملائي في إدارة التحرير حملة ضد التحرش الجنسي، لكننا فوجئنا حينها أن رجالًا كثر يعتبرون أن التحرش هو رد فعل على ملابس الفتيات، وحين كنا نخبرهم أن اختيار الملابس أمر شخصي لكل فتاة، ولا يجب أن يتم معاقبتها عليه، وأن التحرش أمر بشع في كل الأحوال ولا يوجد مبرر له، كانوا يرفضون حديثنا ويعتبرون أننا نشجع الفتيات على ارتداء ملابس ملفتة.

رغم كل شيء، تحدثت مع حسين عن أن الملابس المحتشمة أمر نسبي من ثقافة لأخرى، وأنها في كل الأحوال حرية شخصية، وأن الإنسان المحترم يجب ألا يمارس التحرش أبدًا بحجة أن الفتيات يرتدين ملابس لا تعجبه، لكني شعرت أنني أوذن في مالطا كما يقول المثل.

الغريب أن حسين يمارس فعل التحرش أيضًا مع فتيات يركبن معه التوكتوك لو لم يكن معهن شخص آخر. وحين أخبرته أن هذا عدم احترام لعمله، كان يقول لي جملًا عجيبة من نوعية، البنات تحب المعاكسات، وأن شعاره في الحياة هو “عاكسها من غير ما تلمسها”، وهو نفسه الشعار المكتوب على أكثر من توكتوك في شوارع مصر.

حين أخبرت حسين بأنه شخص متحرش رفض ذلك، وقال لي إنه لا يتحرش بالفتيات ولكنه يعاكسهن فقط؛ معتبرًا أن التحرش هو لمس الفتاة بيديه أو حتى اغتصابها، بينما المعاكسة هي قول كلمات معينة للفتاة غالبًا ما تكون كلمات غزل على حد تعبيره. المدهش أكثر أن مهنة سائق التوكتوك بالنسبة لحسين من إيجابياتها وفق قوله إنها تعطيه فرصة كبيرة لمقابلة فتيات كثيرات بعضهن يقبلن أن يتحدثن معه، ويمكن أن يأخذ منهن رقم هاتفهن فيوافقن.

ما الذي يستفيده أي إنسان عاقل حين يتحرش بفتاة أو “يعاكسها” كما يقول حسين؟ طرحت عليه هذا السؤال، ففكر كثيرًا وكأنه غير قادر على إيجاد إجابة مقنعة. وبعد فترة صمت قال لي: “المعاكسة تجعل الحياة أجمل، أنا أحب الفتيات الجميلات وأفعل ذلك حتى لا أصاب بالزهق”.

يعيش حسين مع أسرته التي تتكون من والده ووالدته وأربعة أشقاء آخرين، ويعتبر أن مهنة سائق التوكتوك مهنة متعبة جدا، ويحلم بأن يتركها ذات يوم، قائلًا عن حلمه في هذه الفترة هو أن يوفر مبلغًا ماليًّا ليستطيع أن يشتري به موتوسيكلًا حديثًا ليعمل به كطيار في واحد من مطاعم مصر الفاخرة. وفي مهنة مطاعم الطعام، يطلق على الشباب العاملين في مهنة توصيل الطعام للبيوت مصطلح طيار؛ ربما لأن السائق يطير بالموتوسيكل في الشوارع ليوصل الطعام للزبائن بسرعة شديدة.

لكن هل ستقبل المطاعم التي ستعمل بها في المستقبل يا حسين أن تعاكس الفتيات في الشارع؟ ضحك وقال لي: “إن شاء الله سأكون كبرت وعقلت، أنا لا أريدك أن تعتبرني إنسانًا سيئًا بسبب أنني حدثتك بصراحة عن حبي لمعاكسة الفتيات، أنا شخص كويس والله”.
الحقيقة أنني لم أصدر أي أحكام على حسين، فعملي كصحافي يجعلني حياديًّا لأقصى درجة مع البشر، أسمع منهم لكني لا أصدر أحكامًا عليهم. لكن فعلًا لا أعرف لماذا ينتشر التحرش في مصر بهذا الشكل المبالغ فيه، وما الذي تحتاجه بلدي لحل هذه المشكلة المؤلمة التي باتت علامة من علامات مصر مثلها مثل الأهرامات وأبي الهول، والأغرب لا أفهم كيف أن المجتمع المصري يدعي أنه مجتمع متدين بطبعه، ومع ذلك يقبل أن يمارس التحرش بهذا الشكل الذي جعل نحو 99% من المصريات يقولن إنهن تعرضن لتحرش؟! وفق إحصاءات صدرت عن مؤسسات دولية.

حسين نموذج متكرر قابلته كثيرًا بين سائقي التوكتوك في مصر، والغريب أن بعضهم أخبرني أنه مستعد لأن يقتل شخصًا إذا تحرش بفتاة تخصه مثل شقيقته مثلًا أو خطيبته. ورغم ذلك، يقبل هو أن يتحرش بالفتيات في الشوارع. أشعر بحيرة شديدة في فهم الكثير من المصريين.
تركت حسين وأنا أتمنى أن يحقق حلمه ويصبح طيارًا في أحد المطاعم الكبيرة، لكني أعترف أن هناك شيئًا ما داخليًّا يرفض ما يقوم به، لكني في النهاية لا أملك سوى أن أتمنى له بأن يدرك أن التحرش جريمة يجب أن يتوقف عنها، وأتمنى أيضًا أن تطبق مصر قوانين رادعة تمنع الناس من التحرش، قوانين حقيقية وليست مجرد حبر على ورق!