حكاية كتاب الحياة المفقودة.. من "مدينة الحوائط اللانهائية" لـ طارق إمام

صدر مؤخرا للكاتب والناقد الأدبي طارق إمام ، المجموعة القصصية “مدينة الحوائط اللانهائية”، عن الدار المصرية اللبنانية، والتي تشمل على 36 حكاية وصورة، وتشارك حاليا بمعرض الإسكندرية الدولي للكتاب.

نرشح لك: الكتب الأكثر مبيعًا في7 مكتبات خلال مارس 2018

إعلام دوت أورج، ينشر إحدى هذه الحكايات التي كتبها طارف إمام بعنوان “كتاب الحياة والموت”، وذلك فيما يلي:

ذات ليلة، وبينما كان بعض أهالي المدينة ينبشون تراب أحد الشوارع البعيدة للبحث عن قطع آثار مخبأة أو عملات ذهبية، عثروا على هيكل عظمي متيبس ووحيد، منكفئاً في وضع جلوس وقد أمسك بين كفيه العظميتين كتاباً مفتوحاً.
اندهشوا من المشهد الغريب، وضاعف من اندهاشهم أن الكتاب، الذي خلّصوه بصعوبة من بين يديه بدافع الفضول، كان ما يزال سليماً، لم يتعرض لتلف رغم كل تلك السنوات. كانت صفحاته متماسكة، ومحتفظة بلونها الأصلي الأبيض كأنه لم يُمس، لم ينل منه الزمن الذي حوّل قارئه لشخصٍ ميت.

فكّروا أن يهيلوا التراب على الهيكل العظمي مرة أخرى ويتركوا البقعة باتجاه أخرى، ولكن واحداً منهم _ كان قد تصفح الكتاب بفضول غريب_ استوقفهم.. وقد لاحظ أن صفحات الكتاب كانت كلها خاليةً من أي كلمات، في ما عدا الصفحة الأولى فقط، والتي احتلتها عبارة واحدة مكتوبة بخط اليد”: من يعثر عليّ ستصيبه اللعنة إن لم يخرجني”.
فكر الرجال من جديد: إن هذا يعني أن الهيكل العظمي هو ذاته من كتب هذه العبارة، كما أن كون الصفحات خالية يعني أنه لم يكن يقرأ كما اعتقدوا في البداية، بل كان يكتب.

خمّن الرجال العمليون أن الشخص الذي ذاب لحمه لتشرق عظامه الآن من تحت التراب تعرّض لحادث مفاجئ طمره تحت الأرض كل هذه السنين، ولأن الشارع الذي فتحوا أحشاءه كان متاخماً لجبل الكحل الذي اختفي من فترةٍ قصيرة تاركاً المدينة لنساء ممسوخات وبحر مالح تسيطر عليه قرصانة عجيبة، فقد فكر الرجال أن يتوخوا السلامة ويتركون الهيكل العظمي وكتابه لفردوس التراب.

لكن أحدهم، وكان أكثرهم حكمة، بادر معلقاً: “لقد مات هذا الشخص في لحظة سعادة.. كما كان عاشقاً.. لأن أطراف أنامل يده اليمنى تُلامس موضع قلبه.. والكتاب الذي بين يديه كان ملتصقاً بصدره، قريباً من أنفاسه، مثل جنين”. أكمل الحكيم وكأنه يقرأ الحكاية من سطورٍ غير مرئية في الهواء: “يبدو أنه كان يهم بكتابة رسالةٍ طويلة لحبيبته عندما باغته الموت”. تأمّل الحكيم الكتاب من جديد، وقلّبه بين أصابعه المبقعة بعناية، قبل أن يُخرج من بين طياته زهرةً ذابلة. هنا هتف كمن أحرز انتصاراً أمام قطيع من المكذبين: “انظروا.. هاهو الدليل على دماء قلبه التي جفت في ريعانها”.

تناقشوا كثيراً، وقرروا في النهاية أن يخرجوه ويسندوه إلى أقرب حائط بعد أن يعيدوا الكتاب لكفّيه كما كان حين عثروا عليه، فالوصية واضحة، ولا تُلزمهم بأي واجبات تجاهه سوى إخراجه من تحت الأرض ليعود إلى وجه الدنيا.

عادوا إلى بيوتهم في المساء، واستيقظوا ببقايا أحلام مجهدة في الصباح تقيأوها بسرعة ليعودوا إلى عالم الواقع الذي لم يكن يكف عن معاقبة مدينتهم باللعنات التي لا تُصدَّق. بدافع الفضول توجهوا إلى حيث تركوا الهيكل العظمي بالأمس، ليُفاجأوا أن ساقيه قد اكتستا باللحم من جديد ودبت فيهما الدماء. بمرور الأيام راحت الحياة تدب تدريجياً بامتداد جسده وكأنها تعيده لعالم الواقع بالذات، الذي كان غادره بلا أمل أكثر من أن يكون حلماً يرقد تحت التراب على هيئة جثمان مغدور.

تمكّن الهيكل العظمي وحده من ستر عورته بقطعة قماش، حين عادت لسابق عهدها. لم يعد تبقى للهيكل العظمي سوى وجهه لكي يعود إنساناً كاملاً. ورغم أن المعجزة فاقت تصورات أكثر الحالمين في المدينة خيالاً، إلاّ أنهم ما لبثوا أن تعوّدوها بسرعة، لتصير الواقعة الأشد إثارة في مدينة عاشت طويلاً تحت الضوء الخافت للواقع. وبات الهيكل العظمي الذي يعود للحياة يوماً بعد الآخر فُرجة المدينة وكأنه زهرة تنمو بصلابة في تربةٍ معادية.

هكذا صار أول ما يفعله الأهالي كل صباح، وقبل التوجُّه إلى أشغالهم، هو زيارة موقع الهيكل العظمي، لمشاهدة التغيرات التي كانت تطرأ عليه في المساء، أثناء نومهم.

ذات صباح، فوجئ الأهالي بالهيكل العظمي وقد استعاد وجهه، الذي أحيط بهالة شعر طويلة، سوداء وناعمة، وارتدى جلباباً واسعاً، لم يعرف أحد من أين أتى به.

في تلك اللحظة فقط، اكتشفوا أن الهيكل العظمي كان لأنثى وليس لرجل كما اعتقدوا كل ذلك الوقت، وفوق ذلك جميلة، تشير قسماتها بوضوح لوجوه النساء التي اختفت ملامحها لتحل مكانها عين واحدة قبيحة تنظر للحياة بعين الموت.

اشتهوها جميعاً، ودون أن يتحدثوا في ما بينهم عرفوا أنهم يرغبون في تمزيقها فوق أسرّة كوابيسهم الخشنة. لكنها حملت كتابها، واثقةً كأنها تعرف أنها محصنة ضد أي أذى، وبدأت الكتابة. مع كل صفحةٍ جديدة تنتهي من تسويدها كانت واحدة من إناث المدينة تتحوَّل في لحظة إلى هيكل عظمي. صار الرجال يستيقظون كل صباح على هياكل عظمية جديدة في أسِّتهم وغرف بيوتهم، لنسائهم وبناتهم. فكروا في قتلها، لكنهم جميعاً أحجموا، ولم تتأت لأحدهم شجاعة المبادرة باقتراحٍ كهذا، فقد كانوا يعرفون أن اشتهاءهم لها يجعلهم أجبن من التضحية بأنفاسها.

ماهي إلا أيام حتى كانت إناث المدينة قد تحوَّلن إلى هياكل عظمية ضاقت بها المقابر، وصارت الفتاة التي عادت للحياة الآن هي الأنثى الوحيدة في مدينة ليس فيها إلا الرجال. في هذه اللحظة فقط ابتسمت لأول مرة، فقد صارت في لحظة العشيقة الوحيدة الممكنة لآلاف االرجال الذين بلا أحلام. صارت الفتاة العائدة من الموت زوجةً غير معلنة للجميع، وأُمّاً وحيدة للجيل الجديد الذي بزغ بملامح متشابهة حد التطابق. هكذا أعادت الجميعَ إخوة، وفقط في تلك اللحظة، بدأت ملامحُها تذبل، كأن وجهها لم يكن غير وردة، لتحتله عينٌ واحدةٌ كبيرة.