المقاعد الخلفية.. أن نُبقِيَ على الشغف

محمد سقراط

“الأمر لا يحتمل قراءة المزيد عن الجاموفوبيا”، جملة قلتها لنفسي حين بدأت في قراءة رسالة الكاتبة نهلة كرم في الصفحة الأولى من روايتها الجديدة “القواعد الخلفية”، وهي الرواية الثانية لها، بعد رواية “على فراش فرويد”، ليصل مجموع إصدارات الكاتبة إلى أربعة إصدارات، متضمنةً مجموعتان قصصيتان، “أن تكون معلقًا في الهواء” و “الموت يريد أن أقبل اعتذاره”. والجاموفوبيا لمن لا يعرف، هو الشعور بالخوف من الارتباط أو الزواج، والذي يحاول البعض التخلص منه باللجوء إلى تدريبات روتينة ساذجة للتخلص من هذا الخوف.

نرشح لك – أسود لامع بطريقة غادرة.. للموت أشكال أخرى

غيرت رأيي سريعًا حين  دققت في كلمات الجملة التي كونت الرسالة، تحديدًا كلمة “أيضًا”، كان نص الرسالة.. “إلى.. من يخافون الارتباط، ولا يمكنهم البقاء وحيدين أيضًا”، إذاً فالفكرة ليست تقليدية، والاختلاف فيها يتمثل في اجتماع كل من الرهبة من الارتباط والرغبة فيه في نفس الوقت.

تصدير مباشر وواضحٌ لفكرة الرواية، وذكي باستخدام كلمة “أيضا”، فإذا انتقلتَ للصفحات التالية لتبدأ في قراءة أحداث الرواية، دعنا نتفق وقتها على أن هذا الانتقال يعتبر موافقة ضمنية على قراءة روايةٍ طويلة، تدور أحداثها في ربعمائة صفحة، تملؤها أحداث ستين فصلًا.

نرشح لك – ماذا يقرأ هؤلاء السبعة حاليا؟

– غلاف الرواية من عناصر الجذب، ففيه على أحد المقاعد تجلس فتاة بشعر أسود طويل، تداري بجسدها أغلب أجزاءٍ من قفص أمامها، وتتأمل عصفورةً استقرت على أحد أغصان شجرةٍ جرداء، إلا من ورقات قليلة ملونة، خمس ورقات تحديدا، تتجاهل العصفورة بدورها هذا القفص، ناظرة إلى اتجاه آخر، كما تداري الفتاة نصف سحابةٍ بيضاء في الأفق، والذي يشغل لونه الحيز الأكبر من الغلاف بلونٍ قريب من لون السماء، ولكنه يترك أثرًا مريحًا، أوعلى الأقل غير مقبض أو منفر..
– الحوار في الرواية من أمتع عناصرها، شكلًا ومضمونًا، فهو يأتي على نفس الطريقة التي بدأت بها هذه المراجعة، فتأتي جمل الحوار أفقية جنبًا إلى جنب بين علامات التنصيص، تليها جملة توضح قائلها.. “قالت آية” أو “قال رامي”..شكل الحوار هذا بدا لي جذابًا ومختلفًا، وجلعني منتبهًا إلى مضمونه العميق، وسهل عليّ استيعابه بسهولة، وأغناني عن العودة لأعيد قراءة الجمل الحوارية أخرى في أغلب أوقات القراءة، باستثناء الممتع منها بالطبع.

نرشح لك – مكاوي سعيد الغائب الحاضر بمعرض الكتاب

– لو عدنا إلى فكرة الرواية وللموضوع الذي تطرحه، نجد أن الرواية كشفت لنا سببًا جديدًا غير تقليدي لرهاب الارتباط، قد تكون غفلت عنه القراءات البحثية، والدراسات في هذا الموضوع، وهو ببساطة قد يكون أي سبب آخر دون تنظير!، وبالنسبة لسارة – اسم بطلة الرواية –  فالسبب هو تجربة مؤثرة مرت بها في فترة مراهقتها.

أضافت هذه التجربة الكثير لحبكة الرواية، لبساطتها وواقعية حدوثها، وأضفت عليها الكثير من التشويق، وتناولت الرواية التجارب الأخرى التي تمثل الأسباب التقليدية والشائعة، كالتردد والمشاكل العائلية، من خلال باقي شخصيات الرواية، تعيش معهم سارة تجاربهم، بل وتنصحهم أحيانًا، وتحاول أن تساعدهم ليتخلصوا من هذا الرهاب أحيانًا أخرى.

– طريقة سرد الأحداث والحكي شيقة، ومحكمة في انتقالاتها ما بين أزمنة الرواية في الماضي والحاضر في مواضع كثيرة.. “Flash Back”.. مثلًا، وأنت تشاهد مقطعا من أحد الفصول – نعم تشاهد! – فقد وظفت الكاتبة كلمة بسيطة من حرفين، “تك” وكأنها مؤثرا صوتيا في “سيناريو” يعبر عن صوت الكاميرا عندما تلتقط الصور، ويقوم المصور في هذا المقطع من الرواية بالتقاط عدة صور لسارة أثناء حضورها حفلة خطوبة إحدى صديقاتها، وبعد التقاط كل صورة، أو بعد كل “تك” تسرد سارة جزءا من تفاصيل قصة ارتبطت فيها بحبيبٍ سابق، لتجد نفسك في النهاية قد حصلت على موجزٍ وافٍ لهذه القصة.. حبيبها السابق هو نفسه المصور الذي يلتقط الصور.

– قد يبدو غريبًا بعض الشيء أن زمن الرواية هي الفترة التي يبدأ فيها العد التنازلي لانتهاء فترة حكم الإخوان، ومع الأحداث تتفهم أن ذلك خدم الجو العام للرواية بشكل كبير؛ ففترة حكمهم بشكل عام، وما غلب عليها من تذبذب واضطراب وتردد يعكس كثيرًا من تذبذب واضطراب سارة والأجواء التي تعيش فيها على المستوى الشخصي لها من ناحية، وفترة العد التنازلي تحديدا لانتهاء حكمهم نفسها تلوح فيها الحاجة بشدة للأمان، بما فيها من ضغوط – كحظر التجوال مثلًا – متلاقيةً مع حاجة سارة للأمان والتي تمثل الدافع الأقوى لها لاتخاذ قرار “الارتباط”، وتحت تأثير نوعٍ خاص جدًا من الضغوط كذلك بالنسبة لسارة، من ناحيةٍ أخرى.

-برغم اتفاقنا الضمني الذي سبقت الإشارة إليه، على تقبل فكرة أن الرواية طويلة، إلا أن إيقاع الفصول السريع والمتلاحق لا يجعلك تمل القراءة بعيدًا عن هذا الاتفاق، باستثناء ثلاثة فصول في منتصف الرواية تقريبا، تحديدا، من الفصل التاسع والعشرين إلى الواحد والثلاثين؛ لتحول إيقاعهما إلى الرتابة بعض الشيء، مقارنة ببقية الفصول السابقة لهم، يعود بعدهم الإيقاع كما كان لطبيعته الشيقة الأولى، باستثناء آخر فصلين.

ليس معنى الاستثناء هنا لآخر فصلين أن بهما ملل أورتابة؛ إنما فضلت لهما – وهما يسردان النهاية –  أن يكونا أكثر من فصلين، ولو حتى من باب التناسب مع عدد فصول الرواية الستين، فتختتم الرواية في أربعة فصول أو ثلاثة..
لكن عوض ذلك النهاية نفسها، جاءت شاعرية وبديعة، في غير مبالغة –أي ليست للدرجة الحالمة- واختتمت بعبارة «لن أخبرك أبدًا».. كم تمنيت أن تكون الفقرة التي تصف هذا الموقف هو الفقرة المطبوعة على غلاف  الرواية –

– هنا يأتي السؤال الأهم.. هل أضافت الرواية لفكرتها؟ أو بمعنى آخر، هل تساعد الرواية من يواجه رهاب الارتباط، وفي صورته المركبة حين تختلط به الرغبة فيه؟
الإجابة نعم بكل تأكيد، لو تتبعنا كيف تعاملت سارة مع مشكلتها، وما عانته من مشقة في رحلتها لاتخاذ قرار الارتباط، ولو استخلصنا أيضًا من تجارب باقي أشخاص الرواية دروسًا مستفادة بتأمل تجاربهم..
بل إن أعطت الرواية ما هو أكثر؛ – ولو بالنسبة لي على الأقل – حين نتعلم من الرواية أن كلمة السر، حتى في العلاقات القائمة بالفعل، أيا كان شكلها، صداقة كانت، أم خطوبة، أو زواج، هي “أن نُبقِيَ على الشغف”..

ولم لا؟! فجمال العلاقات يكون حين تصبح تفاصيلها غير مرتبة، مفاجئة، يتسلل إليها محفز في صورة ضغطٍ ما، كمراقبة أحدهم، مثلا، حتى أن نوع هذا الحافز وضعت له الرواية بعد الضوابط حتى لا يكون له أثرًا عكسيًّا على العلاقة.

شكرًا للكاتبة على الرواية، وللأستاذ “مكاوي سعيد” المهداة إليه هذه الرواية، فلولاه -بحسب نص الإهداء- ما كانت الرواية، وما كانت “الراوية”..
كما أن الشكر موصول لمن راجعها ودققها لغويًا.. ولو جاز لي وضع درجة من عشرة للرواية، فبعد قراءتها -للمرة الثانية– تحصل على تسع درجات منها.