"الملك والكتابة".. خريطة العلاقة بين الصحافة والسلطة

فاتن الوكيل

الكثير من المقالات تُكتب عن علاقة السلطة بالصحافة، بعض المؤلفات حكى أصحابها من الصحفيين عن كواليس علاقة الصحافة بشكل عام، وعلاقتهم هم بشكل خاص، بالسلطة على اختلاف عصورها. لكن هذه الكتابات إن كانت تؤرخ لهذه العلاقة المشتبكة طوال الوقت، إلا أنها لا تُقدم صورة عامة، بل زوايا متفرقة من منظور ورأي كل كاتب. من هنا تأتي أهمية كتاب “الملك والكتابة”، الصادر عن دار “دلتا”، لمؤلفه الكاتب والصحفي محمد توفيق، الذي رسم من خلال كتابه “خريطة” لعلاقة الحكام بالصحافة وكيف كانوا ينظرون إلى دورها، وكيف عملوا طوال الوقت على تحجيم هذا الدور.

مشروع صحفي

وخلال حفل توقيع الكتاب، الذي أقيم في نقابة الصحفيين، 3 أغسطس الجاري، وحضره الناقد الفني طارق الشناوي، وأداره الكاتب الصحفي محمد هشام عبية، قال محمد توفيق إن أكثر ما كان يخشاه هو ألا يجد أحداثا تعبر عن اشتباك السلطة بالصحافة في كل عام، لكنهما لم يخذلاه، فوجد بالفعل أحداثا مؤثرة في الحياة الصحفية في كل عام، منذ 1950 وحتى 1999، وهي الأعوام التي اختار أن يتناولها في الجزء الأول من مشروعه.

المشروع الذي بدأه “توفيق” منذ 15 عاما، أكد أنه يعمل على جزأيه الآخرين، حيث سيتناول الجزء الثاني علاقة السلطة بالصحافة، منذ عام 1900 وحتى 1949،على أن يحمل عنوان “حب وحرب وحبر”، بينما يختص الجزء الثالث، الذي أشار الكاتب إلى أنه المفضل إليه، بالصحافة منذ ظهورها، وحتى عام 1900.

كتاب “الملك والكتابة”، ليس مجرد كتابا بالنسبة لـ”توفيق”، لكنه مشروعا عمل عليه لسنوات طويلة. الكثير من الكتب والمراجع قُرأت. مقابلات كثيرة أجريت، فتكونت مع السنوات مادة تستحق هذا التنسيق والبلورة. يقول “توفيق” إنه وضع في نهاية الكتاب قائمة بالمراجع، من بينها بعض الكتب التي لم يقتبس منها شيئا، لكنه أدرجها لمجرد شعوره بتأثره بها خلال مرحلة إعداد الكتاب، وكانت بمثابة “فتح سكة” له لطرق أبواب أخرى في علاقة السلطة بالصحافة.

المرأة التي تسببت في تأميم الصحافة

الصحافة مهنة لا تنفصل عن مجتمعها، من هنا قرر محمد توفيق ذكر وقائع فنية ورياضية في كل فصل، حتى يكسر لدى القارئ حدة الصراع الصحفي مع السلطة. ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى، ليربط القارئ بيين هذه الوقائع، وصورة المجتمع في ذلك الوقت، لكن بشكل موجز وقصير لا يُخل بمضمون الكتاب.

لكن هناك أيضا وقائع اجتماعية، كان لها بالغ الأثر -ولو بالصدفة- على الصحافة المصرية، مثل واقعة “تاتا زكي”، وملخصها أن جريدة الأخبار عام 1959، نشرت واقعة الزوجة الارستقراطية التي تدعى “تاتا زكي”، المتزوجة من محام كزبير، تركت منزلها لعدم رغبتها في العيش معه وخاصة بعد أن رفض تطليقها”، حتى الآن لا نجد علاقة بين الواقعة ومستقبل الصحافة، لكن مصطفى أمين استطاع أن يجعل المصريين ينصرفوا عن أي أمور تحدث في مصر، سوى متابعة هذه القضية.. ومن هنا بدأت الشرارة.

أثار هذا الأمر غضب الزعيم جمال عبد الناصر، وفي خطابه بمناسبة ثورة يوليو هذا العام، هاجم الصحافة واتهمها بتقديم صورة بعيد عن المجتمع الاشتراكي المنشود، ولا تكتب عن الكادحين، وعلى الفور بدأت حملة من الأقلام الصحفية الكبيرة، تدعو إلى “تنظيم الصحافة”، الذي كان على أرض الواقع تأميما، أثر على المهنة منذ ذلك الوقت وحتى الآن، ومع تتابع السنوات وفصول الكتاب، نجد تدهورا في حال المهنة، وعلاقتها بالحكومات التي تريد دائما أن تكون هي “رئيس التحرير الوحيد في صحافتنا” كما قال إحسان عبد القدوس، لكنها أيضا استطاعت أن تُناكف وتصرخ وتؤثر وتقول “لا”، مثلما فعلت مجلة “روزاليوسف” عام 1977 بعد أحداث 18 و19 يناير، عندما رفضت السير في ركب صحافة السلطة بوصف ما جرى على أنه “انتفاضة حرامية”، ووقفت في صف الشعب مؤكدة أن ما جرى هو “انتفاضة خبز”.

دعوة للبحث

بشكل عام، الكتاب لا يُوزع أختاما بصدق رواية وكذب أخرى، خاصة في صراع الصحفيين الكبار مثل المعركة الحادة التي نشبت بين الكاتب محمد حسنين هيكل، ومصطفى أمين، أو بين الكاتب توفيق الحكيم، والشيخ الشعراوي. لكنه يعرض مقاطع من مقالات كتبت بأقلامهم، لذلك فإن الكتاب يعتبر “دعوة للبحث”، في تاريخ الصحافة التي هي صورة للمجتمع المصري في جميع مراحله وعصوره، وهي النقطة التي أشار إليها “توفيق” خلال حفل التوقيع، عندما أبدى سعادته بأن البعض من البعيدين عن مهنة الصحافة، بدأوا بالبحث عن وقائع متعلقة بتاريخ الصحافة، عقب قراءة الكتاب.

في ذات السياق، حملت سنة 1989 في الكتاب عنوان “للحقيقة وجوه كثيرة.. جدا”، تناول الفصل المعركة التي نشبت بين “هيكل” و”أمين”، واتهامات العمالة المتبادلة بينهما، وفي إحدى الفقرات نجد تناقضا واضحا بين بعض الروايات التي جاءت على عهدة أقلام قامات صحفية كبيرة، فمثلا نجد رواية الكاتب موسى صبري لواقعة مطالبة المثقفين للرئيس السادات بالإفراج عن مصطفى أمين، متناقضة ومعاكسة تماما لما رواه هيكل، مما يعني أن هناك طرفا “كاذب” في الموضوع. وهي النقطة التي تضعنا في حيرة “كيف نثق في الصحفيين.. الكبار؟”، وهنا يؤكد الكاتب أن علينا ألا نُسلم بحقيقة واضحة، بل نظل نبحث، ونتعرف على جميع الروايات، وأن نعرف بأن للحقيقة وجوه كثيرة.. جدا.