أراد رجل في منتصف الثلاثينيات من العمر يستثمر بتأجير بعض الغرف في مسكن يستأجره بدوره أن يقنعني قبل نحو ربع قرن باتخاذ إحدى تلك الغرف مسكناً لي، وكنت حينها أبحث عن مستقرّ مؤقت لبضعة أشهر. كان المنزل بـ"رمّته" متواضعاً، و"الرمّة" هنا بضم الراء وكسرها معاً، فقد كان المنزل كلّه متواضع البناء، بل متهالكاً؛ لكن ما استوقفني تحديداً من إمارات تهالكه كانت الرمّة - بكسر الراء – المنتشرة باطمئنان في أرجاء الغرفة التي عرَضها عليّ الرجل للاستئجار؛ ولمّا سألته عنها (على سبيل التأكّد من هويّتها أو أية إجراءات علاجية/وقائية اتخذها نحوها) رأى – وقد بدا أنه لم يجد لها علاجاً ناجعاً – أن يضع الأمر الواقع في إطار مقبول، بل أن يضفي عليه مسحة من القداسة، فقال لي: "هذه يسمّونها حشرة النبي سليمان، وهي غير مؤذية، نحن جميعاً هنا متعايشون معها".
لم أقبل بالعرض، ليس فراراً من الحشرة "المقدّسة" فحسب، بل لأن المكان كله كان متهالكاً أو شبه متهالك، والأهم أنه لم ينزل من قلبي منزلاً حسناً، وذلك ممّا يحار في أمره السماسرة الذين أقصدهم كل بضع سنوات، فهم – بطبيعة الحال - معنيّون بالمواصفات المادية للعقار الذي يبحث عنه العميل لا بانطباعات الأخير من حيث الإحساس بالراحة النفسية والطاقة الإيجابية التي يشعّ بها المكان من وجهة نظر ذاتية بحتة.
في "مائة عام من العزلة" إلماحات بليغة إلى الحرب السرمدية بين الإنسان والحشرات، النمل تحديداً؛ وبحسب ما أذكر فإن المنتصر في نهاية الرواية البديعة كان النمل الذي أودى بحياة الطفل أسطوري السمات؛ وإن تكن سطوة الحشرات/النمل الأبلغ عندي تكمن في الانتقام الأخير الذي يستسلم خلاله الإنسان المغرور في التراب إلى النمل ورفاقه من الحشرات التي ظلّ ينتقم منها طوال حياته أبشع انتقام، أو يفرّ منها – في أفضل أحوال الاستسلام/التسليم/السلام – فرار السليم من الأجرب.
هذه المرة كانت المشكلة، ولا تزال، متصلة مباشرة بكتبي التي وقعتْ ضحية دودة الأرض "المقدّسة" تلك.
يحتفي الكاتب في بدايات تعلّقه الحالم بتجربة النشر بكل كبيرة وصغيرة من تفاصيلها كما لو كان طفلاً تدهشه وتروقه التجربة بكل مغامراتها، ثم لا يلبث أن يعتادها بعد حين؛ وذلك أفضل حظوظ الكاتب على الأرجح، فأسوا من الاعتياد الذي تتوارى معه اللذة اللامبالاةُ التي تغيب في غضونها اللذة تماماً، والأسوأ من الاثنين الانزعاجُ المتراوح حدّةً بين الخفيف أو المتوسط الذي يمكن التغاضي عنه والعارم الذي يفضي ببعض الكتّاب إلى أيْمان مغلّظة بعدم معاودة النشر أو ربما مغادرة الكتابة إلى الأبد. هذا باستثاء نوادر الحالات للكتّاب المحظوظين الذين ينعمون ببركات عملية النشر بسبب الرواج العظيم وما يدرّه من عوائد مادية مجزية، وهو أمر نادر بالفعل في كل بقاع العالم، وإن تكن ندرته أشدّ خصوصية في محيطنا العربي لأسباب عديدة متداخلة.
وفي أضواء الأسباب العديدة المتداخلة تلك، ظلّ من أثقل الأعباء علىّ أن أجدني مضطرّاً باستمرار إلى تدبير متّسع جديد في البقعة التي أخصصها لتخزين حصّتي من نسخ كل كتاب حديث الإصدار، وذلك بحسب بنود الاتفاق الخاص بنشر الكتاب. وإذا كان العبء المعنوي كل مرّة نتيجة عدم نفاد نسخ الكتاب عظيماً، فإن العبء المادي ليس هيّنا بحال، سواء لتحديات افتراع المساحة اللازمة لاحتضان (خنق؟) الكتب أو من حيث الاضطرار إلى حمل صناديقها الثقيلة بمساعدة عامل لطيف أو أيٍّ ممّن حولي من المتطوعين الكرام الذين لا بدّ من أن يكونوا قد مزجوا دوماً نظرات الإعجاب بالإنتاج المتواتر مع نظرات الشفقة على بقاء أغلب نسخ ذلك الإنتاج المهيب متراكمة بعضها فوق بعض في مساحة يكتم أولئك الأحباء تَوْقهم إلى استغلالها في غرض أوضح جدوى لمن في البيت جميعاً.
وكأنّ تلك الأعباء بشقيها المعنوي والمادي لم تكن كافية، وكأنّ انتقام النمل – بشقيه المادي والمعنوي خلال الحياة وبعدها – من كل بني آدم لم يكن كافياً أيضاً، فقرّرت دابة الأرضة المقدّسة تلك أن تشن هجوماً - بدا لي مباغتاً لكنه لم يكن كذلك – على كتبي المتراكمة لتأتي على غير قليل منها وتترك في الكثير آثاراً لا يصلح الكتاب بعدها للبيع ولا حتى الإهداء.
ولأنّ من الحكمة أن نتبيّن الخير أو بعضه على الأقل فيما نظنّه شرّاً مطلقاً، فقد رأيت أن الرِّمّة قد أسدت إليّ معروفاً من حيث لم يحتسب كلانا، فقد منحتني مسوّغاً "رسميّاً" للتخلّص من عدد لا بأس به من نسخ كتبٍ شتّى كنت حائراً ماذا أصنع بها في المستقبل القريب، فخفّفتْ بذلك من التكدّس الذي كان يكتم أنفاس المساحة الصغيرة التي تحتضن كتبي رغماً عنها وعن من حولي لولا تهذيبهم الجمّ. هذا المسوّغ العملي على وجاهته، باعتباره النصف المملوء من الكوب، لا يخلو من باعث على بعض الألم، أو لنقل – استمراراً في تأمّل نصف الكوب الممتلئ – باعث على بعض التمنّي: ليت الذي التهم كتبي كان دودة كتب بالمعنى المجازي لا الحرفي للكلمة.
للتواصل مع الكاتب: [email protected]