"ناجي فوزي".. في مديح رجل لا يرنو إلى محبة الناس

ناجي فوزي
أسماء إبراهيم

ما الأجدر بسعي المرء منا: الحب أم الاحترام؟ دائما ما أستحضر صورة أستاذي الدكتور ناجي فوزي أستاذ النقد الفني بأكاديمية الفنون، وقد تخلى عن معضلة التفكير في هذا السؤال.

أراه الكبير المستغني الذي خبر العالم، فأيقن أن محبة الناس أمر غير مضمون.. فالمحبة رزق يضعه الله في قلب عباده (حتى دونما استحقاق) ألم نحب أوغـادا من قبل؟ لكن الاحترام أمره سهل.. كُـن نزيها/ شريفا/ غير مغرض/ تقول الحق ولو على رقبتك.. أستحضره بمثل هذه الصفات.

أرجع بذاكرتي 17 سنة أو أزيد.. أستاذ رصين وصارم يقوم بتدريس النقد السينمائي في معهد النقد، يطالبنا بأبحاث تخصص، ويدقق في الأخطاء الإملائية قبل التهافت المضموني.،وجريرة الخطأ النحوي لديه تماثل ذنب التقصير العلمي. لا ينفصل الشكل المكتمل لبحثك عن فحواه، فالاهتمام باللغة وانضباطها علامة جدية واقتدار.

نرشح لك: ملخص محاضرة الناقد ناجي فوزي في الجزويت

يخبرنا بشيء من الحسم بضرورة عدم الاستهتار إذا ما رجعت لمصدر ما، فالدقة هي علامته المميزة. “وإياكم والتهاون في كتابة الهمزات” -يحذرنا الأستاذ- “الفصلة تختلف وظيفتها عن النقطة. وعليكم بالاعتناء أكثر بعلامات الترقيم لأنها أدوات لفهم النص”. يدلنا على رواية “البشموري” لسلوى بكر والتي كانت بداية لكسر سردية آمنة عن تاريخنا المصري فيزرع في عقولنا فضيلة الشك. ويلح علينا بإعمال العقل والبحث عن منطق الأشياء وبخاصة ونحن في العمر النديّ.

يراجع لائحة المعهد بشأن فوضى التخصصات ويصر أن يُطبِّقها على طلبته. فيتبرّم الكثيرون من سمت المعلم “النمكي” ويختصمونه، وسيورثه ذلك عداواتٍ مجانية من الصغار ذوي السنوات الخضراء وحتى من المنفلتين الأكبر عُـمرا. وسيدخله ذلك في معارك كان من الممكن أن يتجنبها ولكنه بالنهاية ينتصر فيها جميعها.

أتعجّب من قدرته على الكفاح في مناخ مترهِّـل مستنزِف يرهق أعتى المقاتلين. أتعجب من عدم مبالاته بصورةٍ ذهنية تتكون عنه من صرامته الشديدة. ومن حساب أمـر غضبته في الحق ومن قبلها من تماسك منطقه. من أين يأتي بطاقته تلك؟ تمر السنون ويكون لزاما عليّ البدء في رسالة الماجستير بعد استنزاف سنوات السماح. أتذكر جوابا مسجلا بعلم الوصول يأتي لبيتي من الأكاديمية بضرورة توفيق أوضاعي وطلب فترة مـد لإنجاز الرسالة وقد أرسله رئيس قسم النقد السينمائي والتليفزيوني بالمعهد.

أعود إلى د. ناجي ليخبرني أن من مهامه إنجاز تلك الرسائل المسجلة والمرجئة بفعل تكاسل أصحابها.. لا يستغرق طويلا في عتابي أو لومي.. “يا أستاذة أنا عايز أساعدك” أما كانت “يا ابنتي” أليق منه؟ أقول لنفسي.

أعـاود العمل على الرسالة بعد طول تنائي وهجران. يعيدُ أستاذي إليّ الفصول تباعا وبإيعاز منه ألا أسخط أو أمِل من تكرار التصويبات المطلوبة.. “ستدركين فائدة ذلك في المناقشة.” يقول المعلم الذي كان يراجع بدقة الهوامش قبل المتن. والفصلات والهمزات قبل المكتوب. والذي جعلني أعيد مرارا تحرير الفقرات لأن البحث العلمي ليس كالكتابة الأدبية وتختلف مقتضياته وشروطه عن السرد الإبداعي.. فتتخلص رسالتي العلمية من البديع والمجاز والمحسِّـن البلاغي.

أعلم خلفيته الشُـرطية كونه ضابط بوليس، وأتعجب من الفنان بداخله الذي اتبع شغفه فدرس التصوير السينمائي في معهد السينما وهو رجل الشُـرطة الذي تسلم عمله في صعيد مصر. وعليه أن يخلق الوقت والجهد للسفر للدراسة بجانب عمله الرسمي، بل أنه أكمل دراسته الأكاديمية وكللها بمرحلة الماجستير والدوكتوراه. أُطالع رسالة الماجستير خاصته، وأرجع إلى رسالته للدكتوراه في بحثي العلمي. يُدهشني كم الجهد والدقة لباحث شاب وقتها.. لكني أتفهمهما كبذورٍ لصرامته العلمية التي عايناها لاحقا.

في مناقشة رسالتي للماجستير أراه مطمئنا فيزول توتري وأتذكـّر كلماته ستدركين فائدة ذلك في المناقشة”.. أراه الآن “فضلا منه أكثر منها فائدة لي”. أنالها.. وأجد على صفحته في ذكريات الفيس بوك منشورا يشير فيه لأبحاثه التي انتحلها أستاذه بمعهد السينما حينها، ويسرد أستاذي مراحل السرقة منذ أن كانت فصولا لبحث تخرجه في مرحلة البكالوريوس، ومعركته في استرجاع حقه العلمي المسلوب واتخاذ إجراء قانوني ضد السارق المنتحل.

الآن حصحص الحق.. فأعرف مردّ روح أستاذي القتالية الذي أُجبر على خوض معركة كبرى في شبابه ضد من يُـفترض أنهم سدنة المعرفة والحقيقة. أتفهّـم متأخرا بذور عنايته بالأصول والقواعد. يحاول د. ناجي فوزي ضبط العالم واستعادة جزء من عدالته المفقودة. يرى في تطبيق اللوائح والقوانين أداة أولية لترسيخ قيم النزاهة. يستمسك بالهمزة في مراجعته لأبحاث طلابه علّهم يستمسكون بدورهم بالحق. يعطينا درسا صامتا في النزاهة مع الذات والغيرة على الذات وإتباع حلمك واستعادة حقك.. أشياء ودروس صامتة أستخلصها من استمساكه بعلامات الترقيم. أستاذي الجليل د. ناجي فوزي.. أحبك وأحترمك.

ملاحظة خاصة بأستاذي الفاضل:

أعتذر عن أي خطأ إملائي وعن أي همزة مفقودة.. أعتذر أيضا عن تأخري يوما بأكمله لتقديم التهنئة بعيد ميلادك.. لكنك تعلم عادة تلميذتك المزمنة في التأخر.