عمرو منير دهب يكتب: الذين قرؤوا الشخصية المصرية

عمرو منير دهب
كثرة الذين أدلو دلوهم في أعماق الشخصية المصرية دليل بطبيعة الحال على ثراء تلك الشخصية وسعة تأثيرها، وهو تأثير يتضمن مفارقة معلومة ولكنها جديرة بالتأمّل في كل مرة يتطرّق فيها الحديث إلى تلك الناحية من طرْف خفيّ أو ظاهر. فالمصريون قد خلعوا تأثيرهم عبر الزمان على العالم بأسره دون أن يبرحوا بلادهم، بل على العكس من خلال قدوم العالم إليهم على مختلف الأشكال المتباينة إلى حدّ بعيد، وإنْ اجتمع أغلب تلك الأشكال في كونه اقتحاماً لخصوصية الأرض والشعب المصريين من خلال الغزو والاحتلال، وهو ما أشرنا إليه مراراً بكونه الوصفة شديدة الخصوصية التي عرف من خلالها المصريون كيف يكتسبون فرادتهم ويصدّرون تلك الفرادة إلى العالم عبر غزاتهم الذي أثّروا فيهم فأثرَوهم وتأثّروا بهم عميقاً في آن معاً.

كان من الطبيعي كذلك أن تتباين الآراء والرؤى، وربما الانطباعات من قبل، حول الشخصية المصرية، سواء من قِبل أولئك الذين قرؤوها من الداخل أو الذين طالعوها من الخارج. ومن المهم الانتباه إلى أن الداخل والخارج لا تعني بالضرورة المصريين مقابل الأجانب، قدر ما تعني مدى القدرة على النفاذ إلى أعماق الشخصية المصرية سواء من قبل الباحثين المصريين أو الأجانب، وهي مسألة مرتبطة بمهارة التحليل إضافة إلى الدافع للبحث، مع تذكّر استحالة أن يخلو أي باحث تماماً من تأثير الدوافع الشخصية الانفعالية أو النوازع العرقية أو الاتجاهات الفكرية أو الميول السياسية، على سبيل المثال لا الحصر بطبيعة الحال.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: عن مصريّة المصري

 

دراسات الشخصية الوطنية تحديداً محفوفة بالمطبّات والمزالق، بل والشراك، التي تستدعي أقداراً مضاعفة من الانتباه لسببين رئيسين: الأول إغراءات تعميم النتائج بتأثير الانطباعات، بل حتى في أعقاب الدراسات الطويلة المعمقة. والتعميم مسألة لا نقول إنه يجب تلافيها وإنما تقتضي قدراً عالياً من الدقة في الصياغة فكرةً وأسلوباً تجنّباً للخلط. ودراسة أية شخصية وطنية لا طائل يُعتبر منها إذا لم تخرج برؤى هي لا محالة معمّمة، مع الانتباه إلى أنه لا يوجد تعميم مطلق، فالاستثناءات موجودة بداهةً على كل صعيد، ولكن التعميم الصائب هو الذي يشير بتحديد إلى الصفات والأحكام السائدة والمؤثرة على النطاق موضوع الدراسة أيّاً ما كان، وليس فيما يتعلق بدراسات الشخصية الوطنية فحسب. السبب الثاني مع دراسات الشخصية الوطنية تحديداً يتجلّى في كونها موضوعاً بالغ الحساسية لدى الجميع، حتى إن الباحث يبدو كما لو كان ينجز عمله بين مطرقة الإسراف في الانحياز وسندان المبالغة في التحامل، وربما الأدق أن الباحث يبدو ابتداءً ميّالاً إلى الانحياز أو إلى التحامل بدرجة أو بأخرى حسب طبيعة شخصيته ودوافعه ورؤاه، ومهما تكن النتيجة فإنها عادة تحمل ما يجعل كل واحد توّاقاً للتعقيب والتعليق بقدر أو آخر من المخالفة المتبوعة برأي خاص لا يفلت من سطوته ولذته أحد على أي صعيد تجاه الشخصية الوطنية، سواءٌ أكانت تلك الشخصية الوطنية تخصّه أو تعامل معها على أي نطاق.

يرى الدكتور محمود عودة في الفصل الرابع من كتابه “التكيف والمقاومة: الجذور الاجتماعية والسياسية للشخصية المصرية” الصادر عن دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بالقاهرة سنة 2007، يرى أن “التاريخ المصري (حظي) في كافة مراحله باهتمام قد يقصر دونه الاهتمام بأي تاريخ آخر وذلك باعتبار أن مصر هي التي شهدت فجر التاريخ، ورغم ذلك فإن التاريخ الاجتماعي قد ظل قليل الحظ من هذا الاهتمام لمصالح التاريخ السياسي، وعلى الرغم من وجود كتابات كلاسيكية تؤكد أن فجر الضمير قد بزغ من مصر، أمّ التدين البشري والأخلاق الإنسانية، فإن طباع المصريين وأخلاقهم وسماتهم الشخصية وأنساق قيمهم لم تحظ في الحقب المختلفة باهتمام كاف باستثناءات قليلة”.

تلك إشارة ذكية إلى أن باباً مهمّاً، والأرجح أنه الباب الرئيس، لدراسة الشخصية الوطنية المصرية قد غاب عن أكثر دراسات الشخصية المصرية لصالح الباب الأعظم في كتابة أحداث التاريخ ممثلاً في السياسة التي أطلت من خلالها معظم الكتابات حول التاريخ المصري وانسربت عبرها نُتَف الدراسات المتعلقة مباشرة بالشخصية المصرية. وهذا أمر غير مستغرب، ليس مع التاريخ المصري فحسب وإنما على امتداد حضارات العالم، فالشخصية الوطنية، سواء بالمفاهيم الأكاديمية الحديثة أو بالمعنى العام الشامل، ليست مما يشغل الناس مثلما يشغلهم ما هو سياسي بوصفة المؤثر الأكبر في كتابة وقراءة التاريخ، ومن قبل في مجريات أحداثه.

نرشح لك: منافذ بيع كتاب “الإلحاد الأدبي” لعمرو منير دهب بالمكتبات المصرية

اكتفى الدكتور عودة بعملين فقط، تمثيلاً لما أشار إليه بوصفه “الحقبة القديمة”، محاولاً من خلالهما “الكشف عن الطابع الشائع للشخصية المصرية في تلك الحقبة”، والعملان هما: “الحياة الاجتماعية في مصر القديمة” للسير و. م. فلندرز بتري Sir W. M. Flinders Petrie ، والثاني هو “الأدب المصري القديم أو أدب الفراعنة” لسليم حسن. يبرّر الدكتور محمود عودة ذلك الاختيار للكتابين “بما يكشفان عنه من أنساق مرغوبة في القيم، وأنساق مرفوضة ومرغوب عنها من ناحية، ومن أنماط من السلوك الواقعي تكشف عنها الحكايات والقصص والتراث الأدبي بصورة عامة من ناحية أخرى”.

يعرض الدكتور عودة بعدها لمجموعة من المؤلفات التي جاءت على ذكر سمات الشخصية المصرية، فيختار من القرن الخامس عشر كتاب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” لتقي الدين المقريزي، وبرغم أهمية هذا المرجع وشهرة المقريزي بوصفه عالماً راسخاً “موضوعياً” – بالتعبير الحديث – فإن اقتباسات الدكتور عودة عن مرجع المقريزي لا تخلو مما هو صريح إلى درجة الحدّة في وصف الشخصية المصرية، ولن يقلّل ذلك من قيمة المرجع، خاصة قياساً إلى سياقه الزماني، ولكنه يشير إلى ما ظللنا نذكّر به مراراً من صعوبة التجرّد من الاعتبارات الشخصية التقديرية في الحكم على الشخصية الوطنية أياً ما كانت. يقتبس محمود عودة ما يلي عن مرجع المقريزي، وهو على كل حال ليس أحدّ ما جاء في ذلك السياق: “فصار أهلها محبين لله ويعظمون الجن ويحبون النوح ويدفنون موتاهم في الأرض ويخفونهم ويستعملون سنناً مختلفة وعادات وآراء شتى لميلهم إلى الأسرار التي تدعو كل طائفة منهم إلى أمر من الأمور الخفية فيعتقده ويوافقه جماعة”.

يواصل الدكتور عودة الاقتباس عمن كتبوا عن طباع المصريين، فيورد عن أبي الصلت والمسعودي وابن إياس ويوسف بن محمد الشربيني من الآراء ما لا يقلّ حدّة عمّا أورده عن المقريزي. ثم يقفز إلى القرن التاسع عشر مع اقتباسات عن جاسبار دي شابرول – فيما أورده عن “المصريين المحدثين” ضمن كتاب “وصف مصر” – الذي يبدو صريحاً أيضاً ولكن بما لا يخلو من الموضوعية بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حول آرائه، وهو ما يمكن قوله أيضاً بصفة عامة عن أ. ب. كلوت بك وكتابه “لمحة عامة إلى مصر”. ويرد الاقتطاف في كتاب الدكتورة عودة كذلك عن الجبرتي الذي تغلب على كتاباته كما هو معروف المسحة التاريخية، ولكن بما لا يحجب تعرّضه المباشر للحديث عن طباع الناس في مصر، وإن يكن كذلك في معرض حديثه عن تأثير التحولات التاريخية – بأبعادها السياسية خاصة – على المجتمعات، وبما لا يخلو من صراحة حادة مغلّفة بطبيعة الحال بالانفعال الذي قد يكون مستحقاً في سياق الأحداث الموّارة واستجابات المجتمع موضوع الدراسة لها وانعكاس ذلك كله على الكاتب بشكل تلقائي.

حديثاً، تواصلت دراسات الشخصية المصرية، وهي غالباً بأقلام مصرية تتخذ منطلقات أكاديمية في معظمها، وإن لم تخل مما هو فكري عام بعيداً عن مقتضيات الدراسات الأكاديمية المتخصصة. ويبرز عندي جمال حمدان بوصفه أبرع من كتبوا على هذا الصعيد، مستفيداً من خلفيته الأكاديمية في تخصص يمكن أن يوصف بالقريب (الجغرافيا) لتنعكس على كتاباته – “شخصية مصر” تحديداً – فتجتمع فيها الدقة الأكاديمية مع سعة مفكر موسوعي الآفاق معني بعمق بقضايا أمته، فهو لا يدع التفاصيل تشغله عن الرؤية الشاملة ولا العكس. ومجدداً تظل أفكار جمال حمدان – مهما تكن على ما ذهبنا إليه من الدقة والسعة – تكتسي برؤية خاصة لصاحبها قابلة للاتفاق والاختلاف بدرجات متفاوتة، ولكنها دوماً قادراً على حفز المزيد من الأسئلة التي تثري موضوع الدراسة ولا تزعم أنها انتهت إلى إجابة أخيرة.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: انسياب المكوِّن الصوفي

أتعرّض على مستوى التجربة الشخصية باستمرار لأسئلة حول ما إذ كان بإمكان باحث – مهما يكن حظه من المعرفة ومهما تكن قدراته على التحليل – الإحاطة بكافة جوانب الشخصية الوطنية، وإجابتي دوماً واحدة: لا يوجد باحث بتلك المواصفات، بل لا يمكن حتى لفريق من الباحثين المتخصصين في أي من المؤسسات الأكاديمية أن يحيط بكافة الجوانب لأية شخصية وطنية، وهذه أصلاً نيّة لا يجب أن تنعقد عند بداية أي بحث. ولا أزال أرى أن أفضل ما يمكن أن تخرج به البحوث الأدبية والفكرية والإنسانية بصفة عامة هو تفجير المزيد من الأسئلة الخلّاقة التي من شأنها أن تبقي على أبواب البحوث والتحليلات مشرعة لا أن تتوهّم إيصادها بإجابات قاطعة من أي قبيل.

للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي ([email protected])

سيف ياسر.. شاب يصوب الكرة بمهارة لافتة وينتظر الانضمام للأهلي أوالزمالك