عمرو منير دهب يكتب: انسياب المكوِّن الصوفي

عمرو منير دهب يكتب: انسياب المكوِّن الصوفي
“الفرق بين الشخصية المتدينة والشخصية المتصوفة يتبدّى في كــَـون الأخيرة أكثر طمعاً في مغفرة الله وترقــُّـبـاً لرحمته، بينما الأولى أكثرُ ميلاً إلى الخوف مِن عِقابه واستحضارِ ذلك الخوف بشكلٍ مستمر: خوف من المستقبل، خوف من الآخرة، خوف قبلَ الثقة في المغفرة والرحمة، وفي أحسن الأحوال ثقة لا يبارحها الخوف”.

ذلك مما ورد في كتاب “جينات سودانية” تحت عنوان “شخصية متصوِّفة ولكن ليست متديِّنة”، إشارة إلى استبداد المكوّن الصوفي بالشخصية السودانية بما طغى على مظاهر تديّنها الأخرى عبر العصور ولا يزال رغم تداخل المؤثرات الأخرى لأشكال التديّن حديثاً.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: سلاسة اللهجة المصرية

 

وقد عرضنا قريباً لتديّن المصريين بما لم يتبدّ معه استبداد لأي مكوّن على حساب آخر بصفة محدّدة بحيث “ظلت نزعة المصريين على الأرجح في التديّن طاغية ومتماثلة على اختلاف الحقب من حيث إذعانها العظيم للخالق خوفاً ورجاءً”.

نعود إلى جيمس هنري برستد James Henry Breasted في “فجر الضمير” The Dawn of Conscience على سبيل التمهيد للتوغل في دراسة العمق الصوفي بمعناه الكوني الأشمل في التدّين المصري بصفة عامة، فنقرأ في الفصل العاشر من الكتاب تحت عنوان “انهيار المذهب المادي وأقدم عهد للتخلص من الأوهام”، نقرأ: “أما التخلّق بالوداعة التي طالما وصى بها “بتاح حتب” فقد أفاض في الحض عليها ذلك المسن حكيم إهناسية إذ يقول مستحلفاً ابنه: لا تكونن فظاً لأن الشفقة محبوبة، وليكن أكبر أثر لك محبة الناس لك… وسيحمد الناس الله على مكافآتك لهم مقدمين الشكر على عطفك وطالبين لك العافية في صلواتهم”. يواصل برستد في السياق نفسه بعد بضع فقرات: “ونلاحظ زيادة الإمعان في صوغ هذه التأملات بصيغة التوحيد في الصورة الآتية التي صور فيها الحكيمُ الإهناسي الخالقَ الحاكم الرؤوف، في خاتمة تأملاته، إذ يقول: إن الله قد عني عناية حسنة برعيته، فقد خلق السماوات والأرض وفق رغبتهم وأطفأ الظمأ بالماء وخلق لهم الهواء حتى تحيا به أنوفهم، وهم صور منه خرجت من أعضائه. وهو يرتفع في السماء حسب رغبتهم، وخلق النبات والماشية والطير والسمك غذاء لهم، وقد ذبح أعداءه وعاقب أطفاله بسبب ما دبروه حينما عصوا أمره. وصنع النور حسب رغبتهم كي يسبح في السماء ليراهم، كذلك أحاطهم بسياج من حمايته، وهو يسمعهم عندما يكون، وجعل لهم حكاماً وهم في الأرحام ليحموا ظهر الضعفاء منهم”.

النبرة الصوفية بارزة في تأملات “الحكيم الإهناسي”، كما يصفه برستد، ولكن تلك النبرة تنشز عن المقام الصوفي الصرف أحياناً عندما تعرض لبعض تجليات العنف حتى إذا كان مستحقاً أو على الأقل مفهوماً في سياقه. وقد لاحظ برستد نفسه وجود “شيء من التناقض” بالفعل، ولكن فيما يتعلق بدلالة كلمة “إله” تحديداً. وأي تناقض أو اضطراب في سياق تلك التأملات مفهوم لسببين رئيسين: الأول أن ذلك كان إجمالاً خلال “فجر” تشكّل “الضمير” الإنساني، باستعارة تعبير جيمس برستد، والثاني أننا ننظر إلى تلك التأملات قياساً إلى ما سيتضح لاحقاً من مرجعيات محدّدة المعالم في ضوء خبرات إنسانية متراكمة فيما يخص الضمير والأخلاق وحتى اكتمال ملامح المفاهيم الدينية على اختلافها.

في سياق ليس بعيداً، وامتداداً لما يمكن اعتباره مقدمة طويلة قبل الحديث عن أية خلاصة فيما يتعلق بانسياب المكوّن الصوفي في الشخصية المصرية، يرى الدكتور محمود عودة في كتابه “التكيف والمقاومة: الجذور الاجتماعية والسياسية للشخصية المصرية” الصادر عن دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بالقاهرة سنة 2007، يرى في الفصل السابع من الكتاب تحت عنوان “الشخصية المصرية بين آليات التكيف والمقاومة” أن ثمة خمس خصائص بارزة للتكيف طوّرها المصري منذ فجر تاريخه، والخصيصة الخامسة هي “التصورات الميتافيزيقية والقناعات الخرافية والشعبية”.

تحت ذلك العنوان يقول الدكتور عودة: “لقد أكّدت كافة التحليلات الكلاسيكية والدراسات الحديثة على شيوع الكثير من العناصر الميتافيزيقية الشعبية في الثقافة المصرية، وعلى دورها التاريخي في تحمل الظروف والتعايش معها من ناحية ومقاومتها من ناحية أخرى: الحسد، والحظ، والصبر والاعتقاد في الأولياء والأضرحة، والانغماس في الطرق الصوفية، الممارسات الدينية والشعبية، كلها متنفسات ومسكنات جرى ويجري التأكيد عليها… وفي هذا الصدد يمكن الرجوع إلى مجموعة الدراسات الرائدة للمرحوم الأستاذ الدكتور سيد عويس، حول القناعات الشعبية المصرية، بدءاً من ظاهرة إرسال الرسائل للإمام الشافعي، التي اكتشف فيها أن المصري المعاصر يلجأ إلى الأولياء الأموات للشكايا والطلبات، ورغم تفسيره لهذه الظاهرة في ضوء “فكرة الجرائم غير المنظورة” إلا أن تفسيرها الأعمق والأبعد مدى يتجاوز ذلك إلى موقف الناس من أجهزة العدالة-السلطة بوجه عام وعلاقتهم بها وفقدانهم الأمل في كفاءتها وقدرتها على نجدتهم والاستجابة لمطالبهم وتحقيق شكاواهم (كانت الرسائل ممثلة لفئات وطبقات اجتماعية متعددة)”.

لن يكون من الصعب فقط وإنما من المستحيل إطلاق حكم عام على موقف الشخصية المصرية من التصوّف أو حتى التديّن بصفة عامة على مرّ العصور. وهو أمر لا ينطبق فقط على هذه الناحية من نواحي دراسة الشخصية المصرية بل على كل نواحيها، وهو أيضاً مبدأ عام يجب الانتباه إليه بصفة خاصة مع أية دراسة ممتدة في أي مجال عبر حقب التاريخ المختلفة في أي مكان. فالنزعة إلى التلخيص والإجمال بحُكم واحد عام تجاه أية قضية أو أية جماعة نزعة قوية للغاية، وعند الوقوع في شراكها تضيع كثير من التفاصيل وربما “الحقائق” الهامة، بقدر ما يمكن الاتفاق على “الحقيقة” على أي صعيد. وإذا كان تحدّي قراءة الواقع يكمن في التعامل مع الاختلاف الذي لا مناص منه في تفسير وتكييف ما بين أيدينا من الأحداث والقرائن، فإن تحدي التاريخ عظيم التعقيد يكمن أساساً في التعامل مع ما لم نشهده من الأحداث واستنباط البراهين وربما اختراعها، هذا فضلاً عمّا يغيب عنّا لا ريب من الأحداث ونجهله إلى حين أو حتى إلى الأبد، ونصرّ على إطلاق أحكامنا بكل ثقة رغم ذلك.

بأخذ كل ما سبق في الاعتبار، وبالعودة إلى التركيز على المكوّن الصوفي في الشخصية المصرية، وتحديداً في بعده الإسلامي، يبدو أن أظهر ما يدعو إلى الانتباه في ذلك المكون هو انسيابه بسلاسة في الشخصية المصرية بحيث لا يستبدّ بها رغم تجذّره فيها، سواءٌ قياساً إلى سائر مكوّنات الشخصية المصرية أو حتى نسبة إلى أشكال تديّنها بصفة خاصة. فقد أطلّت الصوفية بوضوح في مختلف مظاهر حياة المصريين دون أن ترتبط لدى المصري بضرورة الانخراط في طريقة صوفية بعينها أو حتى الانتباه إلى أن نمطاً ما من السلوك الشخصي اليومي أو الموسمي يستند إلى مرجعية صوفية، بما في ذلك أظهر تلك الأنماط ارتباطاً بالصوفية ممثلاً في تبجيل الأولياء والتبرّك بأضرحتهم بل حتى بمجرد استحضار أسمائهم.

للتواصل مع الكاتب: عمرو منير دهب
[email protected]

عمرو منير دهب

فنانات وإعلاميات تحدثن عن الحجاب