عمرو منير دهب يكتب: عن مصريّة المصري

عمرو منير دهب يكتب: عن مصريّة المصري

“من المسلّم به أن مصر، التي لم تعرف كراهية الأجانب قط بحكم موقعها وسط الدنيا وبين تيارات البشر، لم تعرف العنصرية أو التعصب الجنسي ولا رفضت الاختلاط الصحي بالغير ولا أقامت حاجزا لونيا في تاريخها. ولقد رأينا كيف امتزجت العناصر في مصر كيماويا، دون أن تتحجر، وذلك بفضل قوة امتصاص نادرة، ومن المحتمل أن هذا يرتبط بطبيعة التكوين الجنسي لمصر، حيث يتباين ويتدرج لون البشرة مثلاً حول معدله السائد، بحيث عوّد المصريين منذ القدم أن يأخذوا اختلاف الألوان كبديهية، وبحيث أصبح التعايش والتزاوج بين الألوان المختلفة أمراً طبيعياً بل وإلى حد غياب الشعور “بمسألة” اللون أصلاً وإطلاقا. ومنذ مئات السنين “كانوا يجتمعون بين الأبيض والأسود والأصفر في العائلة الواحدة، فيكون للبيض زوجات سود وأبناء سود ويكون للسود زوجات بيض وأبناء بيض، ويحدث هذا بكثرة وبين الأثرياء والفقراء على السواء”. لقد ألغى تعدد الألوان وتدرجها عقدة اللون إلى أقصى حدّ ممكن”.

هكذا بدأ جمال حمدان قراءة “الاعتدال في التطبيق: العنصر والعنصرية” في الفصل السادس بعنوان “الاعتدال والشخصية المصرية”، نقلاً عن الجزء الثاني من “مختارات من شخصية مصر” الصادر عام 1995 عن مكتبة مدبولي بالقاهرة.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: انسياب المكوِّن الصوفي

 

بالعودة إلى بداية ما ورد في الفصل السادس المشار إليه من تلك المختارات نقرأ: “الاعتدال أو التوازن هو الوجه الآخر للتوسط، وكالتوسط لا يقصد به الاعتدال أو التوازن المحافظ الخامل، بل ملكة الحد الأوسط والوسط الذهبي. بمعنى عدم التطرف والتطوح. وهو بهذا ابن المرونة أو هو أبوها، ودليل الحيوية والتكيف والقدرة على التلاؤم، ومن ثم كان له قيمة بقائية في خلود الشعب المصري. أو كما يقول ويلسون عن مصر القديمة: فمرونة الأسلوب المصري والوسائل التي حققوا بها الأمن والسلام على أساس التوازن بين القوى المتعارضة تدل على عبقرية شعب عظيم”. يواصل حمدان: “وواضح على الفور أنه إن يكن التوسط صفة جوهرية في شخصية مصر، فإن الاعتدال من جانبه أدخل في الشخصية المصرية. التوسط دراسة في عبقرية المكان، ولكن الاعتدال دراسة في عبقرية الإنسان. التوسط في روح مصر، أما الاعتدال فدراسة في روح المصري. وبعبارة أوضح، إذا كان التوسط ألصق بالأرض المصرية، فإن الاعتدال يتصل مباشرة بالإنسان المصري نفسه، نفسيته، عقليته، أخلاقياته، شخصيته، خامته ومعدنه، جوهره وروحه… إلخ، أي تلك الجوانب الداخلية “الجوانية” الدفينة والدخائل الغائرة الخفية غير المادية غير المنظورة أو الملموسة بصورة مباشرة”.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: سلاسة اللهجة المصرية

من أجمل ما يمنح كتابات جمال حمدان عن شخصية مصر والشخصية المصرية فرادتها انتباهُه إلى التفاصيل والفروق الدقيقة بين الألفاظ ودلالاتها، والمقتطفات السابقة من موسوعته الفريدة عن شخصية مصر تشير إلى ما هو معروف عن الشخصية المصرية من المسالمة والتوازن والوسطية والاعتدال، لكنه يحرص على تأكيد فرق دقيق بالنسبة له بين ما يبدو مصطلحاً واحداً أو كلمتين مترادفتين، فـ”التوسط” يتعلق بأرض مصر، أما “الاعتدال” فهو خاص بالإنسان المصري. ويذهب حمدان إلى تفصيل ما يريده بكل مصطلح وما يتفرّع عن كل منهما من دلالات تنعكس على دراسة مصر الأرض ومصر الإنسان، وهو يحاول أن يربط ذلك بما يشير إليه بوصفه نظريات متداولة في الشأن ذاته وبما قاله دارسو مصر وشخصية شعبها من قبل.

مهما تكن الفروق الدقيقة بين المصطلحات كما يعرض لها كل باحث على طريقته، فإن الوسطية/الاعتدال/الاتزان تعدّ من أبرز ما لاحظه من كتبوا عن مصر والمصريين على اختلاف الأزمنة، وذلك مع تباينات طفيفة في الغالب، ودون إغفال أن تلك الاختلافات بين الدارسين تغدو واضحة في بعض الأحيان. ولعل من أشد ما يدعو إلى الانتباه مما تمكن قراءته في هذا الباب ما عرضه جمال حمدان حول رؤية بعض النظريات للاعتدال المصري على أنه “تطرّف في الاعتدال… فإذا كان التطرف في التطرف تدميراً وهدماً وعدمية، فإن التطرف في الاعتدال هو إفراط في السلبية… والمطلوب لمصر الآن هو الاعتدال في الاعتدال”.

من الصعب إذن الاتفاق حتى حول دلالات وتجليات الصفة نفسها في أية شخصية وطنية، والشخصية المصرية ليست بدعاً على هذا الصعيد بطبيعة الحال.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: المطبخ المصري عبر العصور

بأخذ كل ما سبق في الاعتبار، لعل من الطريف الانتباه إلى أنه إذا كان ثمة ملمح واحد من ملامح الشخصية المصرية تبدّى من خلاله تعصّبها وتطرّفها فهو الاعتزاز بمصريّتها، والمصرية لا تعني سوى الانتماء المجرّد لمصر على حساب أي مكوّن أو شاغل آخر، سواءٌ أكان ذلك الشاغل نزعة قومية أو اتجاه سياسي أو منحى فكري، أو حتى شكل بعينه من أشكال التديّن. وقد أشرنا مراراً إلى أن الأحكام المطلقة مستحيلة، خاصة عندما يُراد لها أن تنسحب على شخصية وطنية عبر الزمان، وهو ما ينطبق على هذه الرؤية حول الشخصية المصرية ولكن ليس بما ينال من دقتها على الأقل فيما يتعلّق بما برز من ملامح الشخصية المصرية في أعقاب تشكّلها الحديث، لا سيما في أعقاب استقلالها وتكوّن جمهوريتها الحديثة أواسط القرن الماضي.

مصريّة المصري إذن هي إشارة اجتماع مكوّنات شخصيته الوطنية على نمط فريد بحيث لا يطغى تأثير أي مكوّن سواءٌ أكان سياسياً أو قومياً أو فكرياً أو دينياً، وبما يجعل الغلبة من ثم للاعتزاز بالانتماء إلى الأرض والشعب خالصين ما أمكن من كافة المؤثرات والانتماءات التي يمكن وصفها بالفرعية أو الجانبية.

وقد رأينا في مقام قريب كيف انساب المكوّن الصوفي في الشخصية المصرية، ونضيف في هذا المقام أنه انساب إلى درجة تمصير أصول ذلك المكوّن، حتى إن الإمامين أحمد البدوي والمرسي أبو العباس – على سبيل المثال – يكادان يفقدان تداعيات الأصول المغاربية والعربية بصفة عامة في الخاطر لصالح انتماء يفيض بحكايات وأساطير مصرية خالصة.

وقد رأينا كذلك في أكثر من مقال سابق، مثل “جرعات منشطة في الوريد المصري” و”خصوصية حضارية وليست عرقية” و”في حب مصر كثيرة الأعراق”، أن الشخصية المصرية ظلّت ترحّب بكل الأعراق والمكوّنات غير المصرية وتدعها تنساب فيها وتذوب لتطلّ في النهاية بتميّز ولكن في إطار الشخصية المصرية الذي يبدو دوماً إطاراً قابلاً للاتساع بما يكسبه مزيداً من الثراء ودون أن يفقد خصوصيته الوطنية. وعند الحديث عن الأعراق سيتبدّى لنا بيرم التونسي ويوسف شاهين – على سبيل المثال العابر جداً فيما أفضنا فيه في المقالات السابقة المشار إليها – تجسيداً للمراد بغلبة مصرية الهوية والهوى عندما يتعلق الأمر مباشرة بذوبان الأعراق تحديداً وليس أية مؤثرات أخرى في الشخصية الوطنية المصرية.

“مصر أولاً” إذن ليست شعاراً خطابياً على المستوى الرسمي أو حتى الشعبي، وإنما حقيقة موغلة في أعماق الشخصية الوطنية المصرية تطفح منها بتلقائية وبتعمّد على حدّ سواء، ويتلذّذ بتلك الحقيقة المصريون في الحالين، وذلك بغض النظر عمّا يمكن أن يضمره الآخرون تجاه تلك الحقيقة عندما يرونها قد تصبّ في باب التعصّب الزائد، ومع تذكّر ما يتخلّل تلك القاعدة من استثناءات في الداخل ترى أن بعض الانتماءات الأكبر على صعيد قومي أو ديني أو فكري أو اقتصادي مثلاً أولى بالاتّباع، ففي النهاية تطغى مصرية المصرية على شخصيته الوطنية بكل ما في ذلك من مزايا عميقة أفادت منها الشخصية المصرية في ترسيخ هويتها واكتساحها على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وبرغم ما قد يبدو واضحاً أحياناً في تلك النزعة من بعض أظهر تجليات التعصّب لشخصية ظل الانفتاح والاعتدال من أبرز سماتها على مرّ العصور.

 

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي ([email protected])

فنانات وإعلاميات تحدثن عن الحجاب