الطاووس.. أن تصنع عملا إنسانيا دون استسهال

رباب طلعت

لم يكن تراجع المجلس الأعلى للإعلام عن التحقيق مع صناع مسلسل “الطاووس” إلا إنصافًا للعمل الذي يحمل رسالة إنسانية واجتماعية هامة، سبق وتناولتها الدراما والسينما من قبل في عدد من الأعمال، وهي الاغتصاب، وما تتعرض له الضحايا من نبذ مجتمعي وظلم كبير من المحيطين بهم حتى من الأهل في بعض الأحيان، لما يتعرض له الأهل أنفسهم من وصم بالعار.

“الطاووس” لمؤلفه كريم الدليل بإشراف محمد ناير، وإخراج رؤوف عبد العزيز، وبطولة جمال سليمان، سميحة أيوب، سهر الصايغ، هبة عبد الغني، فرح الزاهد، يوسف الأسدي وممثلين آخرين، غرد بعيدًا عن السرب، منذ الإعلان عنه قبل رمضان، فلم يعتمد في الدعاية إليه على المبالغات التي باتت ظاهرة يزداد رواجها خلال السنوات الماضية، ولكنه تصدر التريند قبل وبعد عرضه بسبب تشابه قصته مع قصة حادث الفيرومنت الشهير، وعلى الرغم من نفي صناعه المتكرر لذلك إلا أن الربط بينهما مستمر، ولكن ذلك لم يقلل قط من أهميته الدرامية، كعمل يناقش قضية هامة، وليس ذلك فحسب فهناك الكثير من العوامل التي تجعله واحدًا من أهم مسلسلات رمضان في موسم 2021.

 

نرشح لك: 17 تصريحا لـ يوسف الأسدي.. المحامي الشاب في “الطاووس”

 

نجومية على نار هادئة

لعل أبرز ما يميز “الطاووس” هم أبطاله، حيث أجاد المخرج رؤوف عبدالعزيز اختيارهم بداية من جمال سليمان الذي نجح في خلق حالة خاصة به في الدراما المصرية، كما فعل من قبل في الدراما السورية منذ بدايات ظهوره وأعماله الأولى في شبابه مثل “خان الحرير” وغيرها، مرورًا بأعماله التاريخية العظيمة مثل ربيع قرطبة وملوك الطوائف وصقر قريش، وبالطبع التغريبة وصلاح الدين الأيوبي، وصولًا للدراما المصرية التي تنوعت أدواره فيها، وبرع في تقديم كل منها مثل “سيدنا السيد”، و”أفراح القبة” و”زي الشمس” وغيرهم.

جمع “سليمان” الكثير من صفات أدواره السابقين في “كمال الأسطول” شخصيته في “الطاووس” ما يجعلك تستحضر فيها الروح القتالية في المناضل “أحمد أبو صالح” في “التغريبة الفلسطينية” تارة وهو يحارب بالقانون كما حارب من قبل بالعصا وفأس الفلاح، وتارة أخرى ترى فيه استبداد “سيدنا السيد” في تعامله مع مساعده توفيق بمزيج من الطيبة والشر في آن واحد، وأخرى ترى فيه حنان “الأستاذ مراد” في “خان الحرير” وحرصه على مساعدة “أمنية” المظلومة مهما كلفه الأمر، وترى في مشاهد حنكة وحكمة “الحكم” في “ربيع قرطبة”، لتظهر لنا شخصية محامي التعويضات بكل ذلك التعقيد في المشاعر والصفات.

سهر الصايغ أيضًا معروفة منذ ظهورها طفلة في دور “أم كلثوم” ونجحت في خطف الأنظار لها بالأداء السهل البسيط، والملامح المصرية القريبة إلى القلب قبل العين، فلقد حافظت على مدار سنواتها الفنية على احترام الجمهور لها وتقديرهم لما تقدمه من أدوار مميزة ومختلفة، والاختلاف هنا في بساطتها ومدى تشابهها مع شخصية البنت المصرية العادية بدون “فيلر” و”بوتكس”، وكل ما يؤخذ على أغلب فنانات جيلها.

قدمت “الصايغ” دور أمنية على أكمل وجه، ففي اللقطات التي جسدت فيها القهر والظلم الذي تعرضت له “أمنية” الفتاة التي تم اغتصابها جماعيًا بوحشية وسادية، نجحت في تحريك مشاعر المشاهد وزيادة تعاطفه معه وتصديقه لألمها ببساطة وسلاسة تستحق الإشادة عليها، فالبكاء كان صادقًا دون صراخ أو نحيب، صراخ هادئ كطبع “أمنية” وعلى النقيض ابتسامة صادقة وفرحة بريئة، ومزيج من المشاعر التي تحملها فتاة في عمرها.

ظهور الفنانة الكبيرة سميحة أيوب أيضًا له طابع خاص، في دور “ماتيلدا” السيدة المسيحية التي تحتوي الكبير والصغير، والإشارة للديانة هنا ليس لتفرقة عنصرية، إنما لرسالة على هامش العمل بتركيبة المجتمع المصري، فلا أحد فينا لا تربطه علاقة بقبطي، والعكس، ولم تعكس “أيوب” فقط من دورها ذلك الترابط المجتمعي فحسب، بل جسدت أحد أهم ملامح علاقة الجيرة المصرية، والسيدات من كبار السن اللاتي تشكل كل منهن أمًا في محل سكنها لجيرانها التي تعتبرهم أبنائها وجزءًا من أسرتها، وهم كذلك نحوها.

نرشح لك: 18 تصريحا لـ عابد عناني.. مُغتصب مسلسل “الطاووس”


باقي نجوم العمل لا يقلون أهمية أيضًا عن أبطاله الرئيسيين، فمها نصار كعادتها قدمت دور الصحفية الطموحة صاحبة الرسالة بشكل متقن، والإشادة أيضًا يجب أن تذهب لأدوار المغتصبين، الذين جسدوا “الطاووس” بمعناه الرمزي الذي يدل على الكبر والغرور وعدم نظره لأي شيء سوى ذيله والمقصود هنا بالطبع بذيله ماله وجاهه، وعلى رأسهم عابد عناني، أحد الوجوه الشبابية الهامة والذي يستمر في حصد الإشادات عن أدواره منذ أن لمع العام الماضي بمشاكرته في مسلسل “الاختيار”، فقد قدم عابد شخصية “زين” المغتصب بكبر مكروه، يزيد من كره المشاهد للشخصية أكثر من كرهه لها بسبب واقعة الاغتصاب، فلم يترك بابًا واحدًا للتعاطف معه أو التماس العذر على فعلته الشنيعة لأي مبرر كان، وكذلك شخصية “والده” المحامي الفاسد “ضياء” والتي قدمها الفنان الكبير أحمد فؤاد سليم، طاغي الحضور والأداء، وبالطبع من الأدوار المميزة دور الفنان جمال عبد الناصر “المستشار حسام الدين”، ولجمال عبدالناصر حضورًا ذو طابع طيب ومميز في أي دور يقدمه، وقد كان هنا صوت الحق في القانون الشاهد الذي لم يأبه لأي شيء سوى الحق، وشخصية “توفيق” التي قدمها يوسف الأسدي، المحامي الشاب الريفي، المجنون بأسطورة “كمال الأسطول” والذي يتحمل منه كل شيء لشدة إيمانه به، قدم “الأسدي” تلك الشخصية بمزيج من البراعة البساطة التي تصل للقلب مباشرة، فلا يمكن أن يكره أحد “توفيق”، أما فرح الزاهد فنجحت هي الأخرى في خلق حالة من التعاطف معها في المشاهد القليلة التي ظهرت فيها خاصة مشهد وفاة زوجها “كريم” الذي يجسده ميدو عادل.

 

 

الإنسانية في مواجهة الطاغوت


نجح كتاب العمل محمد ناير وكريم الدليل في توصيل رسالة المسلسل من خلال قصة “أمنية” والمحيطين بها، فالعمل مزيج من الإنسانية والألم والظلم، والبحث عن الحق أمام طاغوت الفساد الذي يقويه المال والجاه، فقصة “أمنية” ليست فقط انتهاك شرف فتاة، إنما هي قصة فساد التريبة وفساد الأشخاص، فالمحامي الفاسد “ضياء” كيف له أن ينجب ابنًا صالحًا؟ كان من الطبيعي أن ينبت شره في ابنه، ومن الطبيعي أيضًا أن يدافع هو عن ذلك الشر بشر أكبر، مما يزيد من حدة الاغتصاب، فالمغتصب هنا لا يرى أن للفتاة الفقيرة قيمة، بل وليس لها الحق في المطالبة بحقها، احتقاره لها ولعملها هو امتداد لاحتقار والده للحق والعدالة التي يبحث عنها “كمال الأسطول” لأول مرة من أجل العدالة نفسها ومن أجل حق “أمنية” وليس طمعًا في التعويضات كسابق عهده كمحامي تعويضات، ولا طمعًا في الانتصار على عدوه الذي كان صديقًا في الماضي، إنما من أجل الإنسانية التي غلبت على مطامعه.

الصحفية “فريدة” أيضًا حركتها الإنسانية لمناصرة “أمنية” وحمايتها، حتى وإن كانت بطريقة عشوائية متهورة إلا أنه حركها واجبها وشعورها بأنها مسؤولة كسلطة رابعة عن تحريك القضية لصالح الفتاة المظلومة التي تواجه طوفان الفضيحة والفساد وحيدة.

نفس الإنسانية حركت مشاعر المستشار حسام الدين، نحو شهادة الحق، لتبرئة الفتاة من تهمة الزنا وفساد الأخلاق التي يروج لها المغتصبون عنها، وذلك ليبرئ ابنه من ذنب صداقة المذنبين، كي لا يحاسب هو الآخر على فعلتهم بعد وفاته، على الرغم من توعد ابنه لأصدقائه بمحاسبتهم والوقوف في صف الفتاة التي لا يعرفها وخسر حياته من شدة انفعاله وغضبه عما حدث لها، وهي نفسها التي جعلت زوجته تذهب لهم وتنهرهم من أجل فتاة لا تعرفها، وكذلك “ماتيلدا” التي احتضنتها في منزلها دون أن تعلم عنها شيئًا وعندما اكتشفت قصتها أحبتها وطلبت أن تتحمل مسؤولية إعادة تأهليلها للحياة من جديد ودعمها، لتواجه الانكسار الداخلي الذي تشعر به.

كل تلك الإنسانية، وقفت مع “أمنية” الضحية، لتعينها على الألم والظلم الذي تعرضت له، بداية من غيرة اختها منها على الرغم من أنها هي المعيل لها ولأبنائها بعد طلاقها، ما دفعها لفضحها أمام والدها وإخباره بكل غيرة “أدي بنتك المتعلمة اللي فخور بيها”، والذي لم يتحمل الفضيحة فمات دون أن يعلم أن ابنته بريئة، ذلك الحقد والكره نفسه الذي دفعها لموافقتها على طرد طليقها الذي عاد لها بعد وفاة والدها ليعيش معها في المنزل بعدما طرد أختها، ليسلب هو الآخر منها حقها في منزل والدها.

الألم الأكبر أيضًا لأمنية كان في تخلي “فيجو” حبيبها عنها، وتعامله معها على أنها أهدرت شرفها برضاها، ومطالبته بالثأر منها، وتخليه عنها لأنها لم تصبح “شريفة” كما يظن! والظلم الأكبر كان في تلفيق تهمة الزنا لها وتصوير ما حدث على إنه برضاها أمام الرأي العام بادعاء متصلة على أحد البرامج بأنها هي.

ذلك التوازن بين الظلم والألم والإنسانية والمحبة، من أكثر عوامل قوة العمل، الذي جعلته متزنًا ليس غابة من الشرور، ولا أرض أحلامٍ وردية، بل هو واقع به الوجهين، ونفس الوجهين ظهرا في “كمال الأسطول” فهو ليس ملاك ولا شيطان، هو إنسان، محامٍ يصيب ويخطئ، على النقيض من “الطاووس” والمقصود به هنا المغتصبون وأهلهم.

نرشح لك: نجوم رمضان 2021 مع إعلام دوت كوم