عمرو منير دهب يكتب: أسامة أنور عكاشة مبدع فوق العادة

أن يكون أسامة أنور عكاشة مبدعاً غيرَ عاديّ في الدراما التلفزيونية العربية لا يعني أنّ مَن سواه جميعاً مبدعون "عاديّون"، فمن أولئك المبدعين مَن هو جيّد ومنهم مَن هو ممتاز، لكن الاستثناء بطبيعة الحال – في كل مجال وليس الدراما التلفزيونية وحدها – يقتصر على نماذج محدودة بوضوح. على صعيد إبداع الدراما التلفزيونية العربية كتابةً لا يزال عكاشة استثناءً نادراً، و"بين الكاتب العادي وأسامة أنور عكاشة" الصادر قبل أكثر من خمسة عشر عاماً – والذي شرعتُ في كتابته قبلها بنحو عشرة سنوات - تفصيلٌ ذو شجون في هذا السياق.

أعادني إلى استدعاء خصوصية عكاشة العملُ المتميّز لقناة "الوثائقية" المصرية الذي تناول "قصة وسيناريو وحوار" حياة أشهر من اندرج اسمه تحت تلك العبارة على مدى تاريخ الدراما التلفزيونية العربية، فكان جميلاً أن أقف على أن مكانة عكاشة الفريدة لا تزال مؤثرة وأن ثمة من يستحضرها ويحتفي بها أليق احتفاء.

بدا واضحاً الجهدُ المخلص وراء العمل الوثائقي المتقن الذي يستحقه مبدعٌ في مكانة عكاشة، فلم يذهب سَعْيُ سنوات الإعداد هباءً بحال. أفاد كلُّ من شارك في العمل بإيجاز ووضوح حول تجربته وصلته بعكاشة وإبداعه، وأدارت الصحفية الراقية نسمة تليمة الحوارَ بحيث كانت كلُّ إجابة أو إفادة لأيٍّ من الضيوف – على اختلاف مشاربهم – تكشف ملمحاً فريداً من جوانب المبدع إنْ على الصعيد الإبداعي الخالص أو خصوصية علاقاته الإنسانية مع مَن حوله من المبدعين أيّاً كانت صلاتهم به، وتخلّل كلّ ذلك تعليق بديع لبلال مؤمن يليق بدوره ببلاغة أسامة أنور عكاشة وأثرها على كلّ متذوّق أدبيّ فريد.

أشرت في مقام مستقل إلى أن أسامة أنور عكاشة خلال لقاء تلفزيوني معه في التسعينيات الماضية كان قد نصح زملاءه الأدباء – بمزيج من التهكّم والجدّ والودّ – بضرورة انتقالهم إلى تجربة الكتابة لدراما التلفزيون إذا كانوا يطمحون إلى الانتشار، وذلك على اعتبار أن الكتابة الأدبية الروائية قد انحسرت إلى حدود ضيقة لصالح الكتابة الدرامية للتلفزيون بحيث بات الزمان هو زمان الدراما التلفزيونية بلا منازع بحسب مفاد تعبير المبدع الكبير؛ وذلك على الأرجح قبيل أن تشيع مقولة "زمن الرواية" وتكتسح الأسواق الأدبية على نحوٍ جعل أغلب المهتمين بالمقارنة بين أنواع الكتابة يكادون يأخذون تلك المقولة على أنها باتت مسلّمة أدبية. برغم ذلك، أشار بعض الضيوف الكرام في الفيلم الوثائقي إلى أن عكاشة كان يضمر في وجدانه غصّة نفسية تجاه الكتابة الروائية، إذ لم يفلح المجد العظيم الذي حقّقه في عالم الدراما التفزيونية في أن يطمس داخله الحنينَ والتوق إلى مجد أدبي على سوح الكتابة الأدبية الروائية ظلّ ملازماً له منذ بداياته في عوالم الكتابة على الأرجح.

ليس بالضرورة أن ثمة تعارضاً بين هذين الموقفَين - أو هاتين الحالتين النفسيتين - لعكاشه؛ فإشباع التوق النفسي إلى الظهور والمجد عبر مجال غير الذي ظلّ يحلم به ويخطّط له أيٌّ من المبدعين على أي صعيد لا يعني أن ذلك الإشباع التعويضي سيطفئ تماماً جذوة التوق الذي كان إلى الشهرة والنجومية عبر "الحبيب الأول" في دنيا الإبداع، بل على الأرجح من شأن ذلك أن يشكّل عقدة نقص، أو حتى رغبة في الثأر، تجاه "الحبيب الأول" الذي لم يستطع الوفاء بأحلام المجد التي داعبت وجدان المبدع ابتداءً عبر حبيبه الإبداعي الأول.

لا أدري كيف كان عكاشة ليستجيب الآن لو أتيح له أن يرى المجد الأدبي قد بات يُطرق بشكل أساسيّ وحادّ عبر أبواب الرواية وليس الكتابة الدرامية للتلفزيون. لكن، من المهم الانتباه إلى أن ما حدث ليس انحساراً لانتشار الدراما التلفزيونية لصالح الأعمال الروائية المكتوبة بل انحساراً لنجومية كاتب الدراما التلفزيونية لصالح زميله/ندّه الروائي؛ وجدير كذلك بالانتباه أن نجومية كُتّاب الدراما التلفزيونية لم تكن أمراً شائعاً فيما مضى وإنما بمثابة الحدث الاستثنائي الذي بلغ ذروته مع أسامة أنور عكاشة، وذلك قياساً إلى النجومية المعتادة للمشتغلين بالحقل الدرامي التلفزيوني من ممثلين ومخرجين وحتى بعض المنتجين.

اشتبكتُ شخصياً على مستوى أعمالي النقدية اشتباكاً عنيفاً مع الرواية، ليس من حيث قيمتها كجنس أدبي رفيع وإنما بداعي اكتساحها المبالغ فيه – اصطناعاً وتكلّفاً على الأرجح - لأسواق الأدب. وبصرف النظر عن أحقيّة الرواية بذلك الكسب (غير الأدبي بالضرورة) الذي دان لها، فإن مقولة "زمن الرواية" – وتقديري لجميع المعنيين بتلك المقولة عظيم لا يفسده اختلاف الرأي مع من ساهم في ترويجها أو آمن بها – كانت أشبه بكلمة باطل حتى إذا كان المقصود من ورائها حقّاً يتراءى من وجهةٍ ما لمن أطلقوا وروّجوا تلك المقولة بصرف البصر عن حقيقة وأحقية أيّ جنس أدبي بالتأثير والذيوع.

على صعيد "قصة وسيناريو وحوار"، العمل الوثائقي البديع، والتواصل الأنيق الذي أتيح لي خلال بعض مراحل إعداده الأخيرة، لم يتبقّ لي في هذا السياق سوى أن أنوّه مجدّداً بالجهد المقدّر لكل من ساهم في العمل، مستصحباً ذكرى أنيقة للمحات أصيلة ونقيّة أضافت عندي إلى رصيد الأستاذة نسمة تليمة على المستوى الإنساني الكثير فوق ما كان متراكماً من رصيدها الأدبي والإعلامي الرصين.