الذكاء الاصطناعي في محركات البحث.. اتساع نطاق المعرفة أم "هلوسة رقمية"؟

أسماء مندور الذكاء الاصطناعي

“تذكروا كلامي، الذكاء الاصطناعي أكثر خطورة من النووي”، عبارة قالها رجل الأعمال إيلون ماسك في أحد اللقاءات، ربما لم يلتفت إليها أحد في ذلك الحين، لكن أثبتت التطورات والتقنيات الجديدة في هذا المجال رؤية وبُعد نظر الملياردير الشهير حول تبعات الطفرة التكنولوجية الجديدة، وكيف يمكن أن تفتح المجال أمام عدد لا حصر له من الاكتشافات والتقنيات، وكيف يمكنها أيضًا أن تأخذ منحى آخر ربما تعاني منه البشرية فيما بعد، فإلى أي مدى يتطابق تحذير إيلون ماسك مع الواقع الجديد؟

توضيح المفاهيم

الذكاء الاصطناعي (AI) هو قطاع من علوم الكمبيوتر يركز على بناء أنظمة يمكنها أداء المهام كما يفعل البشر، لذا فهو محاكاة لعمليات الذكاء البشري بواسطة الآلات، وخاصة أنظمة الكمبيوتر. وجاء في تعريف الذكاء الاصطناعي في الموسوعة البريطانية بأنه قدرة الحاسوب الرقمي أو الروبوت على أداء المهام المرتبطة بشكل شائع بالإنسان، ويتم تطبيق المصطلح بشكل متكرر على مشروع تطوير الأنظمة التي تتمتع بالعمليات الفكرية المميزة للإنسان، مثل القدرة على التفكير أو اكتشاف المعنى أو التعلم من التجارب السابقة.

 

منذ تطوير الكمبيوتر الرقمي في الأربعينيات من القرن الماضي، ثبت أنه يمكن برمجة أجهزة الكمبيوتر للقيام بمهام معقدة للغاية، مثل اكتشاف البراهين للنظريات الرياضية أو لعب الشطرنج بإتقان كبير، لكن على الرغم من التقدم المستمر في سرعة معالجة الكمبيوتر وسعة الذاكرة، لم يكن يوجد برامج يمكن أن تضاهي المرونة البشرية في مجالات أوسع أو في المهام التي تتطلب الكثير من المعرفة في الحياة اليومية، إلى أن تطور الأمر بسرعة حتى وقتنا الحالي.

طفرة مفاجئة

استحوذ برنامج ChatGPT مؤخرًا على اهتمام الجميع، وأثار قلقًا بالغًا بين شركات التكنولوجيا الكبرى، وعلى رأسهم عملاق البحث “جوجل”، حيث اكتسب شعبية أسرع من وسائل التواصل الاجتماعي، فمنذ تقديمه بشكل عام للجمهور في ديسمبر 2022، وصل إلى 57 مليون مستخدم شهريًا، وتجاوز 100 مليون مستخدم في غضون شهرين، وهو إنجاز استغرق تيك توك نفسه 9 أشهر للوصول إليه، وإنستجرام عامين ونصف.

 

برنامج ChatGPT هو أداة معالجة لغوية مدفوعة بتقنية الذكاء الاصطناعي التي تتيح إجراء محادثات شبيهة بالبشر وأكثر من ذلك بكثير باستخدام روبوت المحادثة، حيث يمكن لنموذج اللغة الإجابة على الأسئلة، والمساعدة في مهام مثل كتابة رسائل البريد الإلكتروني والمقالات وغيرها، والاستخدام متاح حاليًا للجمهور مجانًا، لأن التطبيق في مرحلة البحث وجمع الملاحظات، كما تم طرح نسخة أخرى باشتراك مدفوع تسمى ChatGPT Plus.

بئر المعرفة

خلال مشاركته بالقمة العالمية للحكومات في دولة الإمارات العربية المتحدة، قال إيلون ماسك إن “الذكاء الاصطناعي هو أحد أكبر المخاطر على مستقبل الحضارة”، لكن المثير في الأمر أن إيلون ماسك نفسه هو واحد من المؤسسين لشركة OpenAI، وهي منظمة أبحاث ذكاء اصطناعي، وهي أيضًا الشركة المسؤولة عن تطوير برنامج ChatGPT، كما تمتلك العديد من البرامج الأخرى.

 

بحسب موقع Entrepreneur، يعتمد ChatGPT على GPT-3، وهو النموذج الثالث لمشروع معالجة اللغة، وهو عبارة عن نموذج لغوي واسع النطاق تم تدريبه مسبقًا للبحث في مجموعة هائلة من بيانات ومصادر الإنترنت للرجوع إليها كقاعدة معارف، حتى أن بيل جيتس قال إن التكنولوجيا في ChatGPT “ستغير عالمنا”.

هذا الذكاء الاصطناعي في ChatGPT هو بئر من المعرفة، لكن قدرته على التواصل هو ما يميزه عن التقنيات الأخرى، حيث تم صقله بالعديد من مهام إنشاء اللغة، بما في ذلك الترجمة والتلخيص وإكمال النص والإجابة على الأسئلة وحتى الإملاء البشري، فهو شبكة عصبية توفر إجابات وبيانات بأنماط الكتابة البشرية، وتمت برمجة الذكاء الاصطناعي فيه بكميات لا حصر لها من البيانات النصية لفهم السياق، ومدى الصلة بالموضوع وكيفية تقديم ردود شبيهة بالإنسان على الأسئلة.

 

واقعة غريبة

شهدت كولومبيا واقعة غير مألوفة عندما أعلن قاضي استخدامه برنامج الدردشة الآلي ChatGPT في إصدار حُكم في إحدى القضايا، حيث قال إنه استخدم الروبوت الخاص بإنشاء النصوص في قضية تتعلق بطلب لإعفاء طفل مصاب بالتوحد من دفع قيمة الفواتير الطبية والعلاج والمواصلات بالنظر إلى الدخل المحدود لوالديه.

وصرح القاضي لوسائل الإعلام أن ChatGPT وبرامج أخرى من هذا القبيل قد تكون مفيدة “لتسهيل صياغة النصوص” ولكن “ليس بهدف استبدال” القضاة، وحكم لصالح الطفل وكتب في حكمه المؤرخ بتاريخ 30 يناير 2023 أنه استشار ChatGPT بشأن هذه المسألة، دون تحديد إلى أي مدى اعتمد على الروبوت.

 

وعلى الرغم من تباين الآراء حول ذلك، إلا أن القاضي قال بأن ChatGPT يؤدي الخدمات التي سبق أن قدمها السكرتير، بل وقام بذلك “بطريقة منظمة وبسيطة” والتي يمكن أن “تحسن العمل” في نظام العدالة، على حد قوله. في حين اعترض البعض الآخر أنه ليس من المسئول أو الأخلاقي استخدام روبوت ذكاء اصطناعي على النحو الذي قصده القاضي في الحُكم المعني، وطالبوا بضرورة تدريب “محو الأمية الرقمية” العاجل للقضاة.

تهديد جوجل

في خضم تلك الضجة، قالت شركة ألفابيت Alphabet، المالكة لشركة جوجل، إنها ستطلق خدمة الدردشة الآلية والمزيد من الذكاء الاصطناعي لمحرك البحث الخاص بها وكذلك للمطورين، حيث كان صعود ChatGPT، روبوت الدردشة من OpenAI المدعوم من مايكروسوفت، والذي يمكن أن يؤثر على إقبال المستخدمين على البحث عن المعلومات في جوجل، أحد أكبر التحديات التي تواجهها جوجل في العصر الحديث في إطار التنافس بين الشركات لقيادة موجة جديدة من الحوسبة.

 

بحسب تقرير رويترز، تعكس تلك القرارات كيف تتوقع شركات التكنولوجيا الكبرى حدوث تغيير هائل حول ما يسمى بالذكاء الاصطناعي، حيث أعلن سوندار بيتشاي، الرئيس التنفيذي لشركة ألفابيت، عن إطلاق خدمة محادثة الذكاء الاصطناعي Bard، واصفًا إياه بأنه “يسعى إلى الجمع بين اتساع نطاق المعرفة في العالم مع قوة وإبداع الذكاء الاصطناعي”، كما أعلنت شركة البحث الصينية Baidu أنها ستحذو حذوها.

خطأ فادح

في خطوة غير متوقعة، واجهت جوجل مشكلة كبيرة أثناء الإعلان عن برنامج Bard الخاص بها المدعوم بالذكاء الاصطناعي، حيث قدم إجابة خاطئة على أحد الأسئلة، وهو الخطأ الذي، بحسب صحيفة وول ستريت جورنال، أدى إلى تراجع أسهم شركة ألفابيت، الشركة الأم لـ جوجل، بنسبة 7.7٪، مما أدى إلى تكبدها خسارة 100 مليار دولار من قيمتها السوقية.

أشار تقرير CNN  إلى أن خطأ Bard يسلط الضوء على التحدي الذي تواجهه جوجل، في الوقت الذي تتسابق فيه لدمج نفس تقنية الذكاء الاصطناعي التي تدعم ChatGPT، المدعومة من مايكروسوفت، في محرك البحث الأساسي الخاص بها، في محاولة لمواكبة ما يعتقد البعض أنه قد يكون تغييرًا جذريًا مدفوعًا بالذكاء الاصطناعي في كيفية البحث عبر الإنترنت.

 

في السياق ذاته، قال ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، لشبكة CNBC، إن التكنولوجيا التي يمكنها تقديم إجابات كاملة مثل البشر تعتبر “ثورة صناعية” قدمتها الشركة إلى عالم المعرفة، لكن في العرض التوضيحي لشركة مايكروسوفت أمام المراسلين، قامت تقنية الذكاء الاصطناعي المضمنة في محرك بحث Bing للشركة بتحليل تقارير الأرباح من شركتي Gap وLululemon، وعند مقارنة إجاباته بالتقارير الفعلية، اتضح وجود خطأ في بعض الأرقام، بالإضافة إلى اختلاق البعض الآخر.

الهلوسة الرقمية

أفاد تقرير صحيفة الإندبندنت أنه في عام 2016، أصدرت مايكروسوفت برنامج دردشة آخر يسمى “Tay”، لكن تم إغلاقه في غضون 24 ساعة لإبداء إعجابه بأدولف هتلر ونشر إهانات عنصرية، ويسمي الخبراء التقنيون تلك الأخطاء في أنظمة الذكاء الاصطناعي بـ “الهلوسة”، أو ميل الأدوات المبنية على نماذج لغوية كبيرة إلى اختلاق أشياء ومعلومات خاطئة أو لا وجود لها ببساطة.

الذكاء الاصطناعي

 

وهو ما يثبت أن إيلون ماسك لم يكن مبالغًا عندما وصف الذكاء الاصطناعي بأنه مثل النووي، فعلى الرغم من خطورة التشبيه في حد ذاته، إلا أنه ربما كان يقصد أنه قابل للتطور بدرجة غير متوقعة، والشيء الأكيد الآخر أنه سلاح خطير ذو حدين.