أندرو محسن يكتب: فيلم كيرة والجن، هل تعلم ما معنى ”ملحمة“؟

أندرو محسن كيرة والجن

3 سنوات من التحضير، نجمان يتنافسان في السنوات الأخيرة على صدارة الإيرادات، إنتاج شديد الضخامة، وثنائي من مخرج ومؤلف يتعاونان للمرة الخامسة، بعد أن حققت 3 من أفلامهم السابقة إيرادات ضخمة كل في سنة عرضه. هذه هي العناصر المكونة لفيلم ”كيرة والجن“ أحدث أفلام المخرج مروان حامد والمؤلف أحمد مراد، ومن بطولة كريم عبد العزيز وأحمد عز، بجانب مجموعة كبيرة من الفنانين المميزين سواء أمام أو خلف الكاميرا.

الفيلم مبني على رواية ”1919“ التي كتبها أيضًا أحمد مراد، والمبنية بدورها على بعض أحداث تلك الفترة الثرية جدًا من تاريخ مصر وخاصة ما يتعلق بالكفاح ضد الاحتلال الإنجليزي.

نرشح لك: هند صبري: فخورة بأدائي شخصية دولت فهمي في “كيرة والجن”


مع عرض الفيلم، انتشرت ظاهرة تصف الفيلم بـ“الملحمة“. فهل هذا الوصف ينطبق بالفعل على ”كيرة والجن“؟

البحث عن الملحمة

طبقًا لمعجم المعاني، الملحمة هي: عمل قصصيٌّ له قواعدُ وأصول، يشاد فيه بذكر الأبطال والملوك ‏وآلهة الوثنين، ويقوم على الخوارق والأساطير. لا يختلف هذا التعريف كثيرًا عن التعريفات في معاجم اللغة الإنجليزية.

بسهولة سنجد بعض الملامح المهمة للملاحم في “كيرة والجن”. الأحداث تدور إبان ثورة 1919 مع تصاعد المقاومة الشعبية في مصر ضد الاحتلال الإنجليزي. نتابع بطولات أحمد كيرة (كريم عبد العزيز) الطبيب الذي كان والده أحد المحكوم عليهم بالإعدام في حادثة دنشواي ومنذ ذلك الوقت قرر أنه سينتقم من الإنجليز ويعمل في سرية بينما يُظهر للإنجليز أنه موالٍ لهم، وعبد القادر الجن (أحمد عز) الذي كان يعمل في خدمة الإنجليز لكن حادثة لاحقة تجعله هو الآخر ينضم للمقاومة، ومعهما فريق كبير يجتمعون على مقاومة المحتل.

إذًا لدينا شخصيتان تحملان صفات الأبطال، ويُقدمان أعمالًا بطولية في فترة شديدة الثراء من تاريخ مصر. هل يكفي هذا لأن يكون الفيلم ملحمة؟

في الحقيقة لا. إذا رجعنا للأدب أو السينما للبحث عن الملاحم، فسنجد أن الأمر لا يتوقف عند مواصفات الأشخاص والأحداث التاريخية، يجب أن يكون هناك صراع واضح، كما في أي فيلم في الواقع، يجب أن يكون هناك خط واضح لمسيرة هذه الشخصيات. وهو ما أخذنا نبحث عنه في “كيرة والجن” حتى منتصف الفيلم تقريبًا إلى أن استسلمنا لعدم وجوده.

يبدأ الفيلم بمشهد مؤثر وجيد التنفيذ لحادثة دنشواي الشهيرة، قبل أن نتعرف على أحمد كيرة وقراره بالمقاومة مع تصاعد الأحداث المؤدية لثورة 19، إذًا سنتابع مقاومة كيرة للإنجليز. جيد. لكن هذا العدو يجب أن يتخذ هيئة واضحة، فهل هو يقاوم ضابط بعينه؟ كتيبة بعينها؟ لا، لاحقًا سنجد أننا نتابع عمليات متتالية ومتفرقة من تنفيذ كيرة والجن ضد الإنجليز. إذ لا توجد هيئة واضحة لهذا العدو فإننا لا نشعر بتأثير هذه العمليات بشكل حقيقي على الدراما نفسها، وهذا دون أن نتجاهل جودة تنفيذها بصريًا. هل لنا أن نتخيل فيلم “الناصر صلاح الدين” ليوسف شاهين دون وجود ريتشارد قلب الأسد أو بقية الملوك والأمراء الذين واجههم؟ مجرد معارك ضخمة فقط؟

ربما كان الخط الأساسي للفيلم هو متابعة تأثير هذه العمليات في إطار المقاومة الشعبية في مصر آنذاك، ولكن حتى هذا لا يمكننا إمساكه بشكل واضح، يتبادل الفيلم المشاهد بين عمليات البطلين وبعض مجازر الجيش الإنجليزي في مصر، لكننا مرة أخرى لا ندرك قيمة عمليات كيرة والجن على الحراك الشعبي، في الحقيقة لا نشاهد هذه الحراك من الأساس سوى في مشاهد المظاهرات في البداية ثم نشعر وكأن فريق كيرة والجن هو المقاومة كلها.

لا يبقى أمامنا إذًا إلا أن يكون الفيلم يتابع كيرة والجن وفريقهما، الشخصيات نفسها وتطورها وصراعها الداخلي والخارجي هو ما نتابعه. فهل يمكن أن نقول ذلك عن الفيلم بالفعل؟

عندما تصبح الشخصيات عبئًا على المؤلف

في عام 1961 قدم المخرج الراحل بركات فيلمه “في بيتنا رجل” عن رواية لإحسان عبد القدوس، بينما شارك بركات في كتابة السيناريو مع يوسف عيسى، وكتب الأخير الحوار. تدور أحداث الفيلم في زمن مقارب لهذا الذي في “كيرة والجن”، يغتال أحد أبطال المقاومة شخصية سياسية بارزة تتعاون مع الإنجليز، ثم يهرب بعد القبض عليه ويختبئ في منزل أحد زملائه وتتطور الأحداث من خلال محاولات هروبه المتكررة ومحاولات الإيقاع به.

نعود إلى “كيرة والجن”، في مشهد مبكر نتعرف على الفريق المصاحب لكيرة، يفسح الفيلم مساحة ليقدم لنا كل شخصية، وسنجد بسهولة أنه فريق يمثل شرائح المجتمع المختلفة، رجال ونساء، مسلمون ومسيحيون ويهود، مستويات اجتماعية متنوعة. ومثل أي فريق في هذا النوع من الأفلام فإن لدى كل منهم صفة محددة جعلته أهلًا ليكون ضمن هذه المجموعة، هذا يجيد الطباعة وذاك يرسم اللوحات المناوئة للاحتلال وهكذا.

بعد المشاهد التأسيسية للفريق يصعب جدًا أن نشعر بوجود اختلاف حقيقي في الدور الذي يمارسونه في العمليات المختلفة، في النهاية سنجد جميعهم يطلقون النار يمينًا ويسارًا دون اختلاف يذكر. يصعب أيضًا أن نجد ما يربطنا عاطفيًا بأغلب هذه الشخصيات، فرغم طول مدة الفيلم، فإن السيناريو لا يقدم أبعادًا تذكر لهذه الشخصيات، وعندما يحاول أن يفعل ذلك فالأمر يلا يعدو أن يجلس أحدهم ليشكو من علاقته مع أبيه في مشهد عابر. في حقيقة الأمر لا يبدو أن المؤلف نفسه يرتبط بشخصياته، إذ نجده ينهي دور عددٍ منهم في الأحداث في مشهد واحد ودون أحداث تذكر بل بعبارة على لسان الراوي، مما يعطي انطباعًا بأن تلك الشخصيات كانت ثقيلة على المؤلف ولم يكن يعرف الطريقة المثلى للتعامل معها.

تبقى فكرة وحيدة لسير الأحداث كان يمكن أن تكون الخط الرئيسي الذي نتابعه، وهو أن يأخذ الفيلم طابعًا بوليسيًا من خلال لعبة القط والفأر الشهيرة، فنتابع محاولات كيرة والجن الهرب من المحقق الإنجليزي هارفي والذي قدم دوره ببراعة الممثل الإنجليزي سام هزلدين. لكن حتى هذه الفكرة ضاعت وسط الإصرار على تقديم العمليات الفدائية واحدة تلو الأخرى وهي التي لم تدفع الأحداث للأمام بأي شكل. سنجد بالفعل أن الضابط يذهب إلى موقع الأحداث ويجمع الأدلة لكنه سريعًا ما يختفي قبل أن يعود بعد العملية الجديدة ليجمع المزيد من الأدلة ثم يختفي وهكذا، وفي النهاية سيصل إلى حل اللغز من العملية الأخيرة مما يجعل كل مشاهد جمع الأدلة السابقة دون أهمية حقيقية.

في المقابل أيضًأ لن نشعر على الإطلاق بأن أعضاء المجموعة يشعرون بتهديد حقيقي أو حتى يحاولون إخفاء وجوههم أثناء تنفيذ العمليات المختلفة، وكأن مطاردة الشرطة لهم أمرًا لا يحدث إلا في بعض المشاهد، لكنه ليس جزءًا حقيقيًا من الأحداث.

في الحقيقة عنصر الزمن بأكمله لم يكن مؤثرًا في الأحداث، إذ يكتب على الشاشة “بعد مرور أشهر” أو “بعد مرور سنة” لكننا لن نجد تغيرًا حقيقيًا ولن نشعر بفارق إذا كانوا ذكروا مرور الزمن أو لم يذكروه.

وصولًا إلى هنا، لماذا ذكرنا “في بيتنا رجل” من قبل؟ بنظرة بسيطة سنجد أن الفيلم الكلاسيكي احتوى على بعض الملامح التي تشبه “كيرة والجن” لدينا بطل يهرب من مطاردة الشرطة ويختبئ في بيت أسرة مكونة من عدة أفراد ولديه أصدقاء في المقاومة أيضًا. لا يشغل الفيلم بالنا بالتعريف بأصدقائه الذين ليس لهم تأثير في الأحداث، فقط المهم منهم. بينما نتعرف بالتفصيل على شخصيات الأسرة لأنها ستؤثر في مسار الأحداث وتصاعدها. مبكرًا سنجد أننا نشارك إبراهيم في رحلة هروبه المتكررة من الشرطة، وخلال هذا الخط نتابع بقية الشخصية وتطورها وصراعها، وتطور شخصيته هو وصولًا إلى نهاية الفيلم عندما يقرر التضحية بنفسه لينفذ عملًا بطويلًا أخيرًا يؤثر في المصريين جميعهم كما أراد. هناك خطوط واضحة لا يحيد الفيلم عنها.

“كيرة والجن” يحتوي على تفاصيل جيدة في الشخصيات هنا وهناك، يضم أداءً جيدًا من بعض الممثلين، وبالتأكيد يقدم الكثير من العناصر المبهرة بصريًا وينقل صورة مميزة لهذه الفترة الزمنية، لكنه يُغفل الجانب الأهم لبناء أي ملحمة سينمائية حقيقية وهي الدراما وشخصياتها.