"الهروب من الذاكرة".. حينما يحتفي إبراهيم عبد المجيد بالفن والحياة

الهروب من الذاكرة
إسلام وهبان

في أغسطس 1973، تعرضت إحدى بنوك العاصمة السويدية “ستوكهولم”، لعملية سطو مسلح، اختطف على إثرها مجموعة من اللصوص عددا من موظفي البنك كرهائن، واستمر حجزهم لمدة 6 أيام، لكن الغريب أن المجني عليهم بدلا من أن تتملكهم مشاعر سلبية تجاه خاطفيهم، ازداد تعاطفهم مع الجناة بل وطالبوا بالعفو عنهم وقاموا بجمع تبرعات للدفاع عنهم، وهو ما أطلق عليه لاحقا “متلازمة ستوكهولم”، أو التعاطف مع العدو والحنين للألم.

في ثلاثيته الأحدث “الهروب من الذاكرة”، الصادرة عن منشورات المتوسط، يتناول الأديب الكبير إبراهيم عبد المجيد، معاناة المصابين بمتلازمة ستوكهولم، من خلال بطل الثلاثية “مجدي هبة الله” الذي تعرض للحبس خمسة سنوات على ذمة قضية سياسية، ولكنه فوجئ بعد خروجه من السجن برغبة ملحة بالعودة مرة أخرى إلى محبسه رغم ما عاشه من ألم وتضيق ومعاناة بداخله، ويظل في صراع ليس فقط مع متغيرات الحياة الجديدة بل مع ظله وخيالاته التي يحاول الفرار منها.

نرشح لك: القائمة الكاملة للفائزين بجوائز الدولة بمختلف فروعها لعام 2022

السرد عتبة الوجود

منذ اللحظة الأولى يضعك الروائي إبراهيم عبد المجيد، في حالة من الترقب والتوحد مع النص الروائي، بداية من عتبات النص، التي تعطي الكثير من المدلولات للقارئ، وتجعله منفتحا على النص، شغوفا بتتبع الأحداث، متشوقا لمزيد من الدلالات حيث تتسع رؤيته للتفاصيل وربطها بعتبات النص، التي انطلقت من عنوان دال منذ اللحظة الأول هو “الهروب من الذاكرة” ليضع القارئ حول رؤية شمولية كاشفة لما تتضمنه الثلاثية، التي زادت عن 1200 صفحة، من فكرة الهروب سواء أكان هروبا من أحداث مأساوية، أو هروبا افتراضيا من خيالات وأشباح تطارد بطل الرواية، كذلك المعنى الواسع للذاكرة بما تحويه من تفاصيل لا بد أن تحكى، وما تحتمله هذه التفاصيل من حقائق أو تاريخ لم يؤرخ وما تشمله من حكايات عبثية، فضلا عن تأثير الزمن – في “رواية زمان” – على ذاكرة أبطاله.

لم يكن العنوان وحده أحد العتبات الهامة على نص “إبراهيم عبد المجيد”، بل كذلك العناوين الفرعية لأجزاء الثلاثية، والتي تساعد القارئ على فهم تفاصيل كل جزء، ومحاولة ربط أحداثه، كذلك المقدمة التي استهل بها الكاتب ثلاثيته، والتي تضع المتلقي في حالة من الاستثارة الذهنية لمعرفة ما إذا كانت الحكاية واقعية أو أشبه بحلم. دلالات عدة تجدها وأنت تقف على عتبات النص، قبل أن ينتقل بك الراوي في عالم بديعة من السرد المحكم، ولغة قوية ومفردات تتناسق مع شخصيات العمل والزمن الذي تدور فيه أحداث الثلاثية.

رأيتُ فيما يرى النائم أن فرقة من الموسيقيِّيْن تعزف وسط صحراء خالية من البشر، وقد جلست على الأرض حولهم الذئاب والضباع والثعالب سعيدة تُصفِّق، بينما فوقها وتحت السماء آلاف الطيور ترفرف بأجنحتها راقصة، والمطر ساقط من السماء، لكنْ، لا أحد يبتلُّ بالمياه غيري، ولا أثر للمطر على الأرض.

الهروب من الذاكرة أم إليها؟

تبرز الثلاثية معاناة المصابين بمتلازمة ستوكهولم، وكيف تصبح الذاكرة عالما من الألم والخوف والحيرة، فرغم شعورهم بالظلم لما تعرضوا له داخل السجن، أو معلى يد جلاديهم، إلا أن تفاصيل وذكريات هذه الحياة رغم قساوتها، تظل عائقا أمام الكثيرين من ممارسة حياتهم العادية بشكل طبيعي، بل ويشعر بعضهم بالحنين إلى حياته داخل السجن، ويكون سلب الحرية بالنسبة له أفضل بكثير من اتساع العالم الذي تطارده فيه ذكريات الحبس والألم وهواجس أخرى.

الذاكرة في ثلاثية إبراهيم عبد المجيد إشكالية كبرى، فنحن لا نهرب من الذكرة فقط حينما تحمل تفاصيل لماضٍ أليم أو ذكريات صعبة ومريرة، بل نهرب أيضا من الذاكرة حينما يصبح الحاضر أكثر ألما ورعبا، حينما تتبدل الأحوال للأسوء ويصير الواقع أكثر قبحا وغير معقولية، ولا يصبح الفرد قادرا على تفسير ما وصلنا إليه وأسباب كل هذا التغيير الذي لحق بالبشر.

إنها متلازمة ستوكهولم التي تحدَّثوا عنها كثيراً في السجن، حين يألف الذي تمَّ تعذيبه شخصية مَنْ عذَّبه، ويخضع له، وينهار أحياناً بين قدمَيْه طلباً لرضاه كيف حقَّاً؟ هل تتَّقي روح المسكين الذي تمَّ تعذيبه أيَّ تعذيب آخر؟ ربَّما يكون هذا كامنا في اللاشعور!

وعلى الرغم من هروب شخوص الرواية من الذاكرة، ومن تفاصيل ماضيهم المؤلم، إلا أن “عبد المجيد” كان يهرب إلى ذاكرته، ليرسم لنا عالما مدهشا من الحكايات، مليئا بالشخوص والأحداث والتفاصيل، ويأخذنا في رحلة شيقة إلى شوارع القاهرة بحواريها وأزقتها ومقاهيها، ويتنقل بنا بين سواحل مصر وصحاريها بين وديانها وجبالها.

كيف وصلنا إلى هنا؟

ترصد الثلاثية تغيرات المجتمع المصري اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وفكريا، خلال العشر سنوات الماضية، ومال لحق بالمصريين بعد ثورة يناير، وكيف تغيرت العقلية والروح المصرية إلى هذا الحد، وتبرز مدى الازدواجية التي أصابتنا على مدار أكثر من 50 عاما، وغيرها من مظاهر التطرف الفكري والأخلاقي التي نعاني منها.

فمن خلال شخصية “الشيخ أبو رقية” يحلل إبراهيم عبد المجيد، مظاهر التدين الشكلي، وما تحمله شخصيات عدد من المتدينين من ازدواجية وتأثر بثقافات بدوية وقبلية بعيدة عن الثقافة المصرية وحضارتها العظيمة، وكيف أثرت هذه الأفكار والمعتقدات في حياة المصريين ونظرتهم للآخر. كما تتناول الرواية صعود الجماعات الدينية وتغلغلها في المجتمع المصري، وكيف باتت قريبة من الحكم بشكل كبير، وطبيعة العلاقة بين السلفيين والأجهزة الأمنية.

لكنها الثورة التي أخفقها الفساد القديم الراسخ في البلاد، والشيوخ القادمون بأفكارهم من الصحراء، وسذاجة الثوَّار الذين لم يدركوا أن ثورة بلا سُلطة تصبح مَلْطَشَة!

تناقش “الهروب من الذاكرة” جذور التطرف الفكري الذي يعاني منه المجتمع المصري، والحالة الضبابية والعبثية التي لحقت بالحياة الحزبية في مصر، وأثر ذلك على الحياة العامة وتوجهات الشباب الذي تحطمت كثير من آماله وطموحاته بعد فشل ثورة يناير وسرقتها، وكيف تغيرت نظرته للمستقبل.

وعلى الرغم من مناقشة الثلاثية الكثير من القضايا الكبرى التي تشغل الأمة المصرية، إلا أن الأديب الكبير إبراهيم عبد المجيد تناولها بحس روائي بالغ الإبداع بعيدا عن المباشرة، ودون تشتيت للقارئ عن القصة المحورية للثلاثية، أو تقليل من متعة السرد.

في مديح الفن والجمال

عشق إبراهيم عبد المجيد للحياة والفن، متأصل في كل كتاباته، وفي نظرته للعالم من حوله، وفي ثلاثية “الهروب من الذاكرة”، يحتفي “عبد المجيد” بالفن وبقدرته على تغيير الإنسان، وتحريره من كل القيود، فتجد الثلاثية تتحول إلى مديح في الغناء والطرب وبكثير من الأغاني التي شكلت وجدانا لعقود عدة، فتجد صوت أم كلثوم والشيخ إمام وشادية ونجاة الصغيرة وريهام عبد الحكيم حاضرة في الخلفية، وكلمات عبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم، ومحمد علي أحمد، وغيرهم من شعراء الغناء، تحيطك وتطربك طوال رحلتك داخل الثلاثية.

ليس الغناء وحده هو الحاضر بقوة في “الهروب من الذاكرة”، بل الثلاثية بمثابة قصيدة في مديح الفن بأشكاله وألوانه المختلفة، سواء السينما أو الموسيقى أو المسرح أو الأدب أو الفن التشكيلي، عالم جديد يفتح إبراهيم عبد المجيد، على مصراعيه أمام روحك لتنهل من بداعته ورقيه وجماله، بلغة شاعرية رائقة وبسرد ماتع يجعلك تعيش كل تفاصيل العمل.

 لأن في الدنيا نساء

لا يحتفي إبراهيم عبد المجيد بالفن فقط، بل يحتفي بالمرأة وبجمالها وفتنتها، يرى المرأة سر الحياة وبهجتها، فالنساء حينما تعشق تصبح أجمل من الجنيات والحور العين، وتتملكهم طاقة غريبة على أن تهب لمحبوبها حيوات مديدة، ولولاها لما كان الرجل سوى كائن بائس معذب يلهث وراء ماديته فحسب.

الحب في ثلاثية “الهروب من الذاكرة”، بمثابة النجاة ومفتاح الجنة الأبدي وطريق الحرية الأوسع، أجمال ألوان الفن التي يمارسها الإنسان، وأعظم لغات البشر وأسرعها وصولا، بالحب تُمحى الآلام وتُغسل الخطايا، وتُستبرأ الأمراض وتُشفى الأسقام، وتُنال الآمال وتُحقق الأحلام.

الجميل في الثلاثية أنها تضع الإنسان في مكانته الطبيعية، بعيدا عن الملائكية الزائفة التي قد يدعوا إليها البعض، أو الشيطانية التي قد نرى العالم من خلالها، بل بطبيعيته البشرية الضعيفة القابلة للتناقض وللرمادية، فالحياة ليست أبيض وأسود، أو نور ساطع أو ظلام دامس، ومن هنا يمكنك فهم الكثير من الأمور والقضايا التي أرهقت قلوب الكثيرين.

قبلات الحُبِّ في البيت مضمونة، مهما حلَّت، فهي عادية قياساً على قبلات الفضاء قبلات البيت مدخل للجنس، وقبلات الحدائق مدخل للفضاء والصعود إلى الآلهة تندهش من كلامه، وتشعر بحقيقته، وتخطف منه قبلة بين الناس في الحديقة، فيكاد يطير وهو يقول الله..