"مثل الأفلام الساذجة": فتاة عادية.. في حالها معظم الوقت!

مثل الأفلام الساذجة

 علاء فرغلي

“كتابة تعيد إنتاج الذكريات، وتنبش في سحارات الأشياء القديمة، وتتجاهل الرفوف المرتبة والأحداث المنظمة، ذاكرة مشاعر رهيفة، وحواس تلتقط الروائح والأشياء والأصوات والناس”.

هكذا تبدو مجموعة “مثل الأفلام الساذجة” لنورا ناجي الصادرة عن دار الشروق.  يبدو العنوان مخاتلا، لكنه أكثر تعبيرا عن مضامين تلك الصور التي تنقلها الكاتبة. هو ليس مجرد اسم مقتبس من إحدى قصص المجموعة، بل هو معنى عام وطبيعة متجزرة في نفوس البطلات، هؤلاء اللواتي يعشن الأحلام الساذجة والقصص الساذجة، والأسباب الساذجة التي تدفعهن للفعل أو الامتناع عن الفعل. يحمل قدرا من السخرية وتقريع الذات، كأنها لوم للنفس عن الطيبة أو البراءة أو الخفة أو التسامح.

نرشح لك: أندرو محسن يكتب: حامل اللقب.. كيف تصنع اللعبة الحلوة؟

القصص لا تنقل صورا جزئية من حيوات أشخاص عاديين، بل تبدو كل قصةٍ كأنها تنقل حياةً كاملة، حتى تلك التي لا تتجاوز صفحة واحدة. تستطيع أن تقف على حياة البطل وطبيعته وثقافته وأن تقترب منه إلى أدنى مسافة ممكنة. ذلك أن الكاتبة لا تقدم وصفا موضوعيا أو محايدا لشخصياتها، حتى مع تلبسها للسان الراوي العليم في أغلب القصص. فالوصف داخليا كان أو ظاهريا، يحمل وجهة نظر ذاتية بحتة، لا تترك لك خيارا لتحب أو تكره، تتعاطف أو تنبذ، تصفح وتتجاوز أم تغضب وتغلق، بل يجبرك على تبني ما تشعر به الراوية وتوحي به إليك.

والبطلة دائما فتاة عادية، تعيش على هامش الحياة، ربما انتهى بها المطاف مغتربة في قارة أخرى تمتهن وظيفة بسيطة، أو مدرسة موسيقى في مدرسة حكومية، أو عاملة في أحد استديوهات التصوير.

تلك المسافة المدهشة التي تنسجها الكاتبة بين الراوي وبين بطل قصتها. وتصنع نوعا من الحميمية الصادقة بين الطرفين سرعان ما تنعكس على الطرف الثالث “متلقي الحكاية”. يكون الراوي غائبا “هو” يحكي عن غائب، لكن كلاهما حاضران ومشاركان من خلال اقتسام نفس الشعور والإحساس. وبين راوٍ مشارك “أنا” يتحدّث عن بطل غائب “هو” لكن أثر الحكاية ينعكس على الراوي وحده، أو بالأحرى؛ الراوية. حتى كأنك لتود أن تربت على كتفه متعاطفا لتخبره أن هكذا هي الحياة.

كل بطلات نورا، شخصيات متغيرة، بدأت من طرف قوس عاطفي إلى الطرف الآخر المناقض تقريبا، وعلى اختلاف أسباب التغير، أو لحظات الاستنارة التي تضيء وجدان الشخصية، كما في “ثقب باتساع العالم” واكتشاف البطلة موت مي صديقتها القديمة، ولحظة انتباهها إلى إلى الماضي وإلى الحاضر، وإلى أنها تسير محنية وكأن عمرها مائة عام، فتقرر أن تعدل قامتها!! وكما في قصة “خوف التي تتخلص فيها البطلة من خوفها ليس من الموت، بل من الشعور بالفراغ، أو كما في قصتها “يقين” حين تنتبه البطلة بينما تنتظر غليان الماء داخل الغلاية، أن لا شيء يربطها بذلك الشريك الذي تعد الشاي لأجله. أن الحياة معه خاوية ورتيبة، أنه لا مبرر لاستمرار هذا الزواج. أو كما في “مزيل عرق” حين تقرر البطلة تغيير مسارها في اللحظة الأخيرة بعدم الرد على هاتف حبيبها. على اختلاف أسباب التغير الذي يصيب الشخصيات تأتي جميعا مقتنعة ذات بناء شعوري منطقي ومقبول وغير مفتعل.

وكل البطلات كذلك لديهن نفس الشعور تجاه أفكار الوحدة والعزلة والاغتراب. مثل تلك التي تعلن عن شعورها بالتحرر حين يفارقها أحد أحبائها، وتتخفف من القيود تباعا، بل تكتشف أن الموت ليس بالشيء السيء جدا حين يموت جدها. كأنها امرأة تخشى التعلق، لأنها تعلم أن الفراق والوحدة هم المصير المحتوم، ومن ثم تقرر أن تعيش كوريقة في الريح.

وكما تلك البطلة التي تكتشف جمال المدينة الغريبة حين يعترف لها زوجها بأنه يحب أخرى، إذ تشعر بأنها لم تعد مضطرة إلى حمل همه. وأنها صارت سعيدة بذلك الشعور الغامض الذي تضرب جذوره في أعماق روحها، كأنها تحتفي بالوحدة، والتحرر من العاطفة.

وهو نفس المعنى الذي تكرسه في قصتها “فجوة سوداء” تلك امرأة التي تشعر بثقل زوجها، رذاذ عطره، وصوت أسنان المشط في شعره، وصوت دوران المفتاح في القفل حين يغادر وحين يعود. ولا تشعر بوجودها إلا حين يغيب لتقف في النافذة تدخن سيجارتها ومكان قلبها فجوة سوداء واحدة كبيرة.

حتى في قصتها “شيطان أبيض” تعبر البطلة عن شعورها بالسعادة حين تكبد زوجها تكلفة علاج القطة التي سقطت من النافذة بسبب إهماله، كأن القطة أهم لديها من هذا الشريك الذي لا يشارك.

بل إن البطلة في “مزيل عرق” تؤثر الوحدة، وترفض أن تحيا شعورا بالامتلاء العاطفي الكاذب في مقابل منح جسدها لشاب تعرف أنه لا يريد إلا في مفاتنها، رغم معاناتها الشديدة، فهي واحدة من هؤلاء اللواتي يكنزن أنوثتهن المؤجلة في حقائب الجهاز تحت السرير في انتظار الرجل.

لا يحضر الرجل كبطل في قصص “مثل الأفلام الساذجة، سوى في قصة واحدة “غرفة فارغة” وهو أيضا يعاني الوحدة، لكنه يقرر التلصص على الفتيات بكاميرا سرية في الشقة التي يؤجرها لهن كأنه يكسر هذه الوحدة بإيذا هذه الحلقة الضعيفة. يحضر الرجل كمعادل موضوعي للقهر مرة وكإكسسوار مكمل للحياة الزوجية الرتيبة مرات، فهو ذلك الذي “يسير أمامها بخطوات واسعة تاركا إياها خلفه تهرول للحاق به!” في قصة “يقين”، وهو الذي “أسير خلف زوجي، دائما يتقدمني بعدة خطوات..” في قصة عروس النبي دانيال. المرة الوحيدة التي حضر فيها الرجل في صورة يمكن أن تفتقده فيها البطلة كان إنجليزيا لا يتحدث العربية في قصة “مثل لوحة لإدوارد هوبر” وهو ما قد يشي بشعور البطلة باغترابها عن محيطها وثقافتها.

مجموعة قصصية مدهشة في بساطتها ونعومة لغتها، هي قصص عن الوحدة الدائمة- الفراغ الكبير- الطلاق – الشعور بالذنب- الموت. لكنها تلمس القلب وتدعو للتأمل وإعادة النظر!

إعلام دوت كوم من العرض الخاص لفيلم تماسيح النيل