عمرو منير دهب يكتب: سحر الشرق المصري

رأينا في مقام قريب تحت عنوان “ذروة الحضارة المصرية” أن قدَر مصر كان ألّا تستريح من الأضواء مسلّطة عليها بطريقة أو بأخرى وبدرجة أو بغيرها بحيث “بدا سحر مصر لدى الإنسانية متجسّداً في حضارتها الفرعونية وآثارها، ليست الخالدة فحسب كما في التعبير الشائع المستهلك وإنما – بتعبير أكثر دقة – المتجددة من خلال إعادة اكتشاف أسرارها في هذه الحقبة وغيرها، وذلك بما يسوّغ القول بأن خصوصية مختلف أشكال الحضارة المصرية تجلّت في استمرار أثرها وتأثيرها بعد أن تتلاشى ذروة سطوة الدولة المادية في أية حقبة من الحقب ربما بما لا يقلّ عن تأثيرها وتلك السطوة في ذروتها”.

يمكن القول إذن بأن خصوصية “سحر الشرق المصري” – إشارة إلى “نصيب” مصر تحديداً من تعبير “سحر الشرق” كما يتراءى للآخرين في الغرب على اختلاف المستويات – تجلّت في كون ذلك السحر ظل جاذباً ومؤثراً حتى والدولة المصرية ليست في ذروة سطوتها أو حتى قوية بما يكفي للحفاظ على تماسكها تماماً. وعند الحديث عن “سحر الفراعنة” تحديداً، فإن خصوصيته تمثّلت في استمراره معيناً لا ينضب بالسرقة، سرقة الآثار والفرار بها إلى أي متحف عالمي، فالآثار العصيّة على التحرّك من مكانها بدت كأنها الضامن لأسرار السحر المصري بحيث تدعو مَن سرق (أو استعار) أيّاً من كنوز التاريخ المصري إلى العودة إلى البقعة التي صنعت ذلك التاريخ لمزيد من التنقيب، ليس بالضرورة عن مزيد مما يمكن حمله والفرار به أو استعارته بطرق رسمية، وإنما لمحاولة فك رموز سحر الشرق في نسخته المصرية.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الأهلي والزمالك

ولكن بعيداً عن خصوصية تلك النسخة المصرية من سحر الشرق، فإن السحر عموماً لا يغدو جديراً بذلك الاسم – بمختلف تداعياته – إذا كانت أسراره قابلة للفضّ بمجموعة من الرحلات والأبحاث العلمية مهما تكن متكررة وطويلة. الأبحاث والدراسات المنهجية في الآثار والأنثروبولوجيا تكشف حقائق علمية لكنها لا تفضّ أسرار “سحر” الأمة – المعنوي بطبيعة الحال – التي صنعت المكان والتاريخ موضوعَي الدراسة.

في كتابThe Mysteries of Egypt: Secret Rites and Traditions لِلويس سبينس Lewis Spence ، نقلاً عن النسخة العربية بعنوان “أسرار مصر: الشعائر والطقوس السرية” الصادرة عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة عام 2012، يقول الصحفي والشاعر والمؤلف الأسكتلندي واسع الاهتمامات في علم الإنسان والفلكلور وأسرار ما وراء الطبيعة: “لعل من التعبيرات غير العادية التي كُتبت عن العصور القديمة خاصة فيما يتعلق بالأشياء العجيبة والمعجزة والأشياء الأخرى خلاف ذلك، بما في ذلك الأسرار المصرية والأسرار الأخرى، تتحدث عن طقوس ومراسم وتعلي من أثر جو الرعب الحادث فيها… ونأتي إلى سؤال يقول كم هو مقدار الحقيقة في هذه التعبيرات وما مقدار التخيل والتصور المدمج في تلك التعبيرات والتي يستحيل التفوه بها حالياً”.

سبينس وافر الإنتاج من الكتب خاصة تلك التي تتناول الأسرار المرتبطة بما وراء الطبيعة ليس في مصر وحدها بل فيما يتعلق بالعديد من الحضارات في مختلف العصور وعلى امتداد العالم بما يشمل سكان أمريكا الأصليين وحضارة المكسيك القديمة وبريطانيا في مختلف عصورها وألمانيا وإسبانيا، هذا إضافة إلى كتاباته المعجمية ومؤلفاته العامة عن الأسرار والغموض والسحر والتنجيم وكل ما يمكن أن يندرج تحت المصطلح الإنجليزي Occultism.

والحال كتلك، فإن لويس سبينس لم يكن ممن يبحثون في كتاباتهم عن “سحر الشرق المصري” كما فعل آخرون بصفة حالمة أو شاعرية، لكن كلماته التالية في الفصل الأول من الكتاب لا يمكن المرور عليها دون استحضار الشاعرية الحالمة التي تكتنف الحديث عن سحر الشرق بصفة عامة، وسحر الشرق المصري على وجه التحديد: “ليس لبلد على وجه البسيطة ما لمصر من سيرة لا تنتهي من الغموض والاكتناف بالأسرار، كيف لا وهي ينبوع السحر، فهي عينها بوتقة من الألغاز ومصدر العجائب والأعاجيب في الطقوس الدينية، وفيها منابع الأسرار الخفية والعلوم العلمية والفلسفة المستقبلية، وكلها مجتمعات بمثابة كهف غائر من حيث المنبت والأصل منذ بزوغ فجر الأسرار والأسحار المكنوفة بالعجائب والفلسفة الناطقة بالحكمة الرفيعة والأفكار النيّرة التي نظرت لها الأحقاب المتعاقبة بعين الدهشة والإكبار”.

يواصل سبينس: “لكن أعتى الباحثين في الطقوس الدينية المصرية مكثوا أمداً بعيداً على رأي واحد يرون فيه مصر مساوية للسحر والعجب، وربما كانت لديهم مبعثاً لصورة ذهنية شفهية تعوزها الحقيقة الواقعة، ذلك بأنه لم يوجد إنسان على درجة من اليقين في الحديث عن الطقوس والعجائب التي احتضنتها جدران المعابد المصرية”.

وإذا كان لويس سبينس يتحدث عن الأسرار المتعلقة بالطقوس الدينية وسحرها تحديداً، فإن كلماته السابقة تتجاوز بإيحاءاتها ما هو ديني حتى تكاد تتطابق مع المراد بتعبير سحر الشرق المصري بصفة عامة وليس الشق المقتصر على الطقوس والشعائر الدينية من ذلك السحر فحسب. ولكن ما المانع من أن يكون سحر الشرق المصري قد انبعث من خلفية دينية بحتة ثم انطلق بعدها ليخلع أثره على الآخر في مختلف المجالات على نمط يختلط فيها كل ما هو غيبي وغامض على نحو شاعري وباعث على الرهبة في آن؟ أي يمتزج من خلال ذلك النمط ما هو جميل وحالم بما هو رهيب ومهيب.

يواصل سبينس: “بيد أن النور بات يتسلل حثيثاً سابراً أغوار بعض الظلمات التي تكتنف الفلسفة المصرية، متواكباً مع شعاع الشمس الذهبي الذي أصبحت الغياهب المجهولة في انحسار أمامه. ورغم أننا لم نكن يوماً على دراية كاملة بيقين، فإن القياس يمنحنا أسباب اختيار المتشابهات، وفي ذلك خطوة للانطلاق من المعطيات والمقدمات التي انتهينا إليها. إننا نعلم أن الطقوس الدينية الإغريقية والإليوسينية والباخوسية والكابيرية ما هي إلا نتاج لأسرار مصر وألغازها وسحرها، وتعويلاً على تفاصيلها وإضافة إلى الدلائل المستقاة من الرسوم والآثار، تمكنّا من إعادة تركيب الصورة بقياس موسع للطقوس الأوسيرية والإيزيقية المتبعة منذ فجرها، والتمثيلات الدرامية الداخلة في الألغاز المبحوثة، بل وتابعنا بما يزيد على جهود الحدس بخصوص أسرارها اللامتناهية، راجين من ذلك كله إعادة تشكيل الصورة للسحر المصري وألغازه في نهاية المطاف كما لو كان معبداً قديماً دفنت فيه أحجاره ثم اكتُشفت بالتنقيب وأعيد تجميعها في صورة بيّنة”.

لا ريب أن ما أتاحته العلوم الحديثة من كشوفات قد أماط اللثام عن كثير مما ظلّ أسراراً غامضة على مدى التاريخ لدى كل الأمم، وفي المقتطف السابق يؤكد لويس سبينس تلك الحقيقة، لكن ذلك لم يلغ بحال مفهوم الغيبيات وما تكتنفه من غموض، فما وراء الطبيعة لا يزال وراءها ولم يقفز أمامنا بحيث تتكشّف أسراره تماماً.

سحر الشرق لا يزال باقياً وفاعلاً أمام الآخر بدرجة أو بأخرى، على الأقل بوصفه سحر ثقافة الآخر، ومصر تبدو على هذا الصعيد في مقدّمة ذلك السحر الشرقي مهما يكن القدر الذي تبقّى منه في خاطر الآخر الغربي.

الأدعى إلى التأمل مع سحر الشرق المصري تحديداً يكمن في مصر والمصريين بعيداً عن غموض الطقوس الدينية القديمة أو أية أسرار حضارية على أي نطاق. فعلى صعيد المقارنة مع الأماكن والشعوب، وإذا أمكن تصنيف البلاد إلى مجموعة تمنح زوّارها مفاتيحها من اللحظات الأولى وأخرى تحتفظ بأسرارها لتمنحها للزائرين لاحقاً وعلى مراحل، فإن مصر تبدو من البلاد التي ترحّب بضيوفها وتفصح لهم عن جمالها وسماحتها منذ الوهلة الأولى، لكنها إضافة إلى ذلك تحتفظ بالكثير الذي تمنحه لهم لاحقاً في الزيارة القادمة وما بعدها مهما تتكرّر الزيارات، حتى إن مصر تبدو كما لو كانت مزيجاً فريداً من السر والجهر، من الكتمان والشفافية، ولعل هذا واحد من أبرز تجلّيات خصوصية سحر الشرق في نسخته المصرية منقطعة النظير.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])