عمرو منير دهب يكتب: المادة والروح في الشخصية المصرية

الشخصية المصرية
المادة والروح من أشهر الثنائيات الوجودية المتناقضة معنىً والمترادفة وروداً في السياقات ذات الصلة بما يجعل أيّاً من الكلمتين تغري باستدعاء الأخرى للمقارنة والمفاضلة أو حتى الدعوة إلى التوسّط في المتطلبات على طرفي ذلك النقيض الوجودي الشهير. ومثل معظم المتناقضات فإن فضّ الاشتباك بينهما ليس يسيراً كما قد نخال، بل إن المادة والروح تحديداً ربما كانتا من أكثر المتناقضات التصاقاً وامتزاجاً بحيث يصعب فصلهما تماماً إلا على سبيل المقاربة النظرية.

وأصعب المقامات، بل أكثرها استحالة (وأرجو أن يجوز التعبير)، لفصل المادة والروح يتمثل في الإنسان واستجاباته على كل صعيد، ذلك رغم النظريات المختلفة ومحاولات إسقاطها عنوة على أرض الواقع وليّ أعناق المقدمات وصولاً إلى نتائج مرتجاة تدعم هذه النظرية الفكرية أو ذلك المذهب السياسي على سبيل المثال. نقول ما سبق، بطبيعة الحال، بتوسيع معنى الروح لا ليقتصر على الإنسان فحسب وإنما ليشمل كل ما يهب الموجودات – الحيّة وتلك التي نظنها جامدة – مزيداً من أشكال الحياة النابضة وتجلياتها.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الذين قرؤوا الشخصية المصرية

مع الإنسان تحديداً، ظلت المادة والروح موضع تنازع أزلي من الواضح أنه يمضي على وتيرة واحدة إلى الأبد، لا تغيير سوى ما تقتضيه ضرورة الموضة – ومرادفها الأفخم “دورة الزمان” – بغلبة أحدى الجانبين على الآخر في هذا المكان أو ذاك خلال حقبة ما من عمر الوجود.

ومع الشخصية المصرية تحديداً سنقف كالعادة على خصوصية فريدة في المزاوجة بين المادة والروح، بما قد يقرؤه بعض الباحثين (ربما معظمهم) على أنه من أظهر تجليات تناقض المادة والروح في شخصية وطنية، وإن كنت أنظر إلى ذلك كما أشرت باعتباره نموذجاً فريداً للعلاقة بين المتناقضين بما يغري بنعته بأقصى ما يمكن بلوغه من درجات التصالح بين النقيضين، وهذا ليس حكماً لصالح ذلك النموذج أو ضدّه على كل حال.

يورد الدكتور محمود عودة في كتابه “التكيف والمقاومة: الجذور الاجتماعية والسياسية للشخصية المصرية” في سياق اقتباسات طويلة عن جاسبار دي شابرول وما سرده عن “المصريين المحدثين” ضمن موسوعة “وصف مصر” ما يلي: “وذكرى مولد النبي هي الأخرى مناسبة لمباهج كبرى للعامة فتمتلئ الميادين بالمهرجين والحواة والعوالم وباعة الحلوى… وعند حلول المساء يسارع الناس بإضاءة الأنوار ويستمر اللهو حتى وقت متأخر من الليل… مع ذلك فشهر رمضان هو أهم الأوقات التي ينغمس فيها المصريون في المسرات ومختلف ضروب اللهو، فهو في مجموعه شهر صيام وشهر مهرجانات، وقد يبدو من الغريب أن يختاروا مثل هذا الوقت للقيام بممارسات متناقضة: التوبة وتطهير النفس من ناحية، والملذات من الناحية الأخرى… فالليل بطوله ينقضي في ولائم وضروب اللهو… وبعد الطعام الاحتفالات والألعاب … وتظل المساجد مضاءة حتى بزوغ النهار، ويقضي أفاضل الناس في حديث نافع لكن الجمهور يذهب إلى المقاهي حيث الرواة والمنشدون يقصون بحماسة ملتهبة مغامرات عجيبة تخلب الألباب بطريقة فريدة… في رمضان يسمح للسيدات باستدعاء العوالم وبعض الموسيقيين”.

تضمّن كلام دي شابرول – رغم ما يبدو من ميله إلى أن يكون موضوعياً -الكثير من الصراحة الحادة مما لم يتسع له هذا الاقتباس من الكلمات والرؤى، والمسألة على ما يبدو ليست من باب التجنّي المتعمّد من الباحث في الحكم على البلد ولا هي كذلك تدخل ابتداءً بالضرورة من باب الموازنة في عرض ما هو “إيجابي” و”سلبي” على حدّ سواء عند الحديث عن المجتمع موضع الدراسة، قدر ما هي ذاتية المؤلف وهو ينظر إلى موضوعه غير متجرّد من المؤثرات والدوافع ما ظهر منها وما بطن حتى عن المؤلف نفسه. الأهم في النهاية – في سياق الدراسات الإنسانية المتعلقة بالشخصية الوطنية – هو ما ينتهي إليه الباحث من النتائج المعمّقة في ضوء المقدمات الوصفية التي تتراءى له، وذلك بصرف البصر مع مثالنا هذا عن غرض دي شابرول تحديداً من دراسته عن “المصريين المحدثين” التي تندرج في سلسلة تعنى بـ “مجموعة من الملاحظات والأبحاث التي أجريت في مصر خلال بعثة الجيش الفرنسي” وتتخذ عنواناً عريضاً هو “وصف مصر”، فالغرض والحال كتلك لا يبدو أنه كان الخلوص إلى أية نتائج دقيقة تتعلق بدراسة الشخصية الوطنية بصفة محدّدة، على الأقل كما يتراءى لنا من العنوان الكبير للسلسة التي جاءت ملاحظات جاسبار دي شابرول ضمنها.

ليس استناداً فحسب إلى ما أوردناه عن الباحث الفرنسي في بواكير القرن التاسع عشر على سبيل المثال، وإنما باستدعاء آراء العديد من الدارسين الذين من ضمنهم مصريون تعرّضوا لسبر أغوار الشخصية المصرية، بل وحتى بإدراج ملاحظات كل من تعامل مع المصريين بصفة عامة، وبعيداً عن الانفعال لأي اتجاه، يمكن تأكيد خصوصية الحالة المصرية في مزج ما هو روحاني بما هو مادي على اختلاف الصعد في الحياة المصرية على نمط بالغ الفرادة.

وفرادة ذلك النمط في مزج المادي بالروحاني تتجلّى بصورة واضحة فيما أشار إليه دي شابرول من مفارقة قضاء المصريين لشهر رمضان، وهي بالفعل مفارقة جديرة بالتأمّل. ولكن بعيداً عن الانحياز لها أو ضدّها، وبضرورة تذكّر أن الحالة الفضلى لاتزان المادة والروح لا تزال حلماً أو مثلاً أعلى أكثر من كونها حقيقة تجلّت في أرض الواقع بعيداً عن مبالغات أي مجتمع في أي من العصور؛ باستصحاب كل ذلك في النظر إلى المسألة يتضح أن المصريين كانوا مباشرين وواضحين فيما يتعلق بمزج المادي بالروحاني، وذلك بطبيعة الحال دون الحاجة إلى تبرير أخطاء الجنوحات الواضحة لدى البعض عن التمسك بالقيم المتفق عليها، سواء في شهر رمضان أو في غيره من شهور وأيام السنة.

يبدو أن المصريين ظلّوا يرون أنه لا معنى لأن ينكبّ المرء على العبادة ويتّخذ الزهد مذهباً فقط لشهر واحد في العام يخصصه للروح ثم يعود بعده ليمارس ما انقطع عنه من رغبات الجسد بقية العام، بل الأرجح أنهم لم يؤثروا تقسيم أيام رمضان نفسها بجدار حديدي صلد أصمّ إلى صباحات منقطعة إلى الزهد ومساءات مخصصة لتعويض حاجات الجسد المادية التي فاتته طوال النهار.

ومجدداً دون الحاجة إلى التماس أي عذر لأي تجاوز في أي سلوك سواءٌ في رمضان أو غيره من شهور وأيام السنة، فإن أعمق ما تمكن قراءته في الصورة التي نقلها دي شابرول عن “المصريين المحدثين” أنها – أكثر من كونها مجرد تناقض صارخ – صورة شديدة الخصوصية لتداول المادي والروحاني في الحياة اليومية إلى درجة إدغام أحدهما في الآخر ليعيشا في سلام، تماماً كما هو الحال مع كثير من المتناقضات التي أفلحت الشخصية المصرية في الجمع بينها في وئام، فيما يبدو أنه أحد أهم أسرار الخلطة التي مكّنت الشخصية المصرية من اجتياز امتحانات العيش في كنف جميع غزاتها على تناقض طبائعهم بدورها، أولئك الغزاة الذين لم يكن قوم جاسبار دي شابرول سوى بعضهم.

للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي: ([email protected])