رمضان وتلفزيون زمان

عمرو منير دهب

أوشك ارتباط المشاهد العربي بالتلفزيون في رمضان أن يكون ارتباطاً عضوياً، خاصة في العقود التي سبقت ثورة الإنترنت وما تمخضت عنه الشبكة خطيرة الأثر من وسائل تواصل وترفيه وتحريض اجتماعي وغير اجتماعي. ورغم الجدل الذي ساد حول جدوى ارتباط الشهر الفضيل بالتلفزيون، خاصة ما كان من برامجه بداعي الإمتاع والمؤانسة، فإن الجماهير من معظم طبقات المجتمع ومرجعياته قد ظلت تُقبل على برامج التلفزيون خلال رمضان كما لا تفعل طيلة أحد عشر شهراً هجرية وميلادية تتأرجح خلالها نسب المشاهدة ولا ترقى في أعلى ما تصل إليه من أرقام إلى نسبة تذكر قياساً بما عليه الحال في رمضان الكريم. بل إن وسائل التواصل، طيّبة الذكر وسيّئته في آن معاً -نسبة إلى آثارها المزدوجة إلى حد التناقض- تقتبس عن التلفزيون خلال رمضان ربما أكثر مما تأخذ عن أي مصدر آخر، وذلك بملاحظة الأدعى إلى جاذبية المتابعة لا كمّ المحتوى بالضرورة.

ليس دفاعاً عن دراما رمضان وبرامجه ابتداءً، وإنما تأكيداً لحقيقة ظلّت تعبّر عن عمق تديّن الجماهير التي لم ينل زخم المسلّيات والملهيات الرمضانية في التلفزيونات العربية من استشعارها روحانيات الشهر الفضيل على نحو متوازٍ حريّ بالتأمّل وبقدر لا يمكن تجاوزه من الدهشة. ولا أزال أستحضر كلما عنّت لي المسألة كيف أن عزيزاً زائراً قد قطع علينا “وصلة” استعراض مبادئ وأخلاق محترمة بعد أن ضاق ذرعاً بتعليقاتنا التهكمية على عمل درامي ونحن نصر على مشاهدته بقدر من الترفّع (وربما الاشمئزاز) حتى النهاية، فسألنا: لماذا تتابعونه إذن؟ حدث ذلك عندما كنّا دون العشرين، في مرحلة من العمر تشتدّ فيها الحميّة دفاعاً عن المثل المجرّدة، ولكن ليس بالضرورة بما يخدم إنزال تلك المثل العليا إلى الواقع بقدر يذكر، ودون التحلّي بحماسة مماثلة لمحاسبة المُثل نفسها أو أولئك الذين يدعون إليها في نموذج حصري بعينه يعدّون ما سواه جناية، بل خطيئة.

نرشح لك: تفاصيل مسابقة “تراتيل رمضانية”.. تذاع على قناة إقرأ

رحم الله أبي، لا أذكر عنه أنه وعدني بإجابة حاسمة على السؤال المتعلق بما يبدو من تناقض بين كثير مما نعتقده نظرياً وبين ما نقوى على تطبيقه من تجلّيات تلك المعتقدات على اختلاف أشكالها، فقد ظل مكتفياً رحمه الله بأن يكون – دون ادّعاء له من أي قبيل – التجسيدَ الأروع الذي رأيتُه لإيمان عميق يتناول نوازع النفس البشرية بتصالح وانضباط نادرين وداعيين إلى بعض الدهشة وكثير من الإعجاب والتقدير، فأغنى أبي محبيه بذلك المثال العملي الفريد عن أية إجابة متحذلقة لن تصمد صلاحيتُها -مهما تكن براعتها- طويلاً أما أسئلة شائكة هي أسئلة وجود في الأساس قبل أن تكون متعلقة بعقيدة محددة أو مذهب بعينه.

أمّا بعد، ماذا عن رمضان والتلفزيون زمان والآن؟ تتقافز الفوازير إلى الذاكرة بوصفها أبرز ما تربّع على وجدان الجماهير من ذكريات رمضان التلفزيونية على مدى نصف قرن تقريباً. والفوازير الرمضانية، التي بدأت في الإذاعة ثم انتقلت إلى التلفزيون في بواكير ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، هي اختراع مصري صميم عرف طريقه إلى الوجدان الدرامي العربي في رمضان مغلّفاً بسحر فريد قبل أن تحط أطباق الفضائيات الطائرة على شرفات وأسطح البيوت بامتداد العالم العربي.

كانت الفوازير – التلفزيونية تحديداً – حينها امتيازاً ينفرد بقصّه على المقرّبين كلُّ من سنحت له فرصة زيارة مصر في رمضان وحظوة مشاهدة ذلك الإبهار الفريد حينها. وكانت الكلمة نفسها (فزورة/فوازير) الغريبة على كثير من الشعوب العربية تضاعف من سحر الحدث الذي لا سبيل إليه لدى الجماهير العريضة في العالم العربي سوى عبر ما يرويه أولئك الأصدقاء والأقارب القادمون من رمضانات مصر، كل بحسب موهبته ورغبته في استثارة فضول وأشواق وغيرة مستمعيه.

مسلسلات رمضان كانت فريدة بدورها، ولمّا كان الإنتاج الضخم بدعة لم تعرف طريقها بعد إلى التلفزيون، فإن أضعف الإيمان حينها كان تقديم عمل متميز مضموناً تنهض ببطولته نخبة من النجوم، وكان المسلسل التلفزيوني يُسوّق على نطاق واسع عربياً على غير الحال مع الفوازير التي ظلت قبل الفضائيات بعيدة عن منال القطاع الأوسع من المشاهدين العرب بما يمنحها طابع المنتج المتوافر حصرياً في مصر خلال رمضان، وذلك قبل أن تعرف طريقها لاحقاً إلى بعض التلفزيونات العربية ولكن بعد بثّها في مصر أولاً.

ثم ما لبثت التجربة أن توسّع نطاقها ليتعدّى إلى تزامُن بثّ الفوازير والمسلسلات التلفزيونية المصرية في العديد من الأقطار العربية حتى قبل أن تبسط الفضائيات سطوتها وتقلب موازين الإعلام وتبث سحرها الجديد ليغطي العالم أجمع وليس القسم العربي منه فحسب، ولتدخل مع مصر في اللعبة العريقة دول أخرى أبرزها سوريا درامياً ولبنان إعلامياً والخليج جامعاً بين الاثنين سواء من خلال الموارد المادية والمنافذ الإعلامية ذات الإمكانيات العالية أو حتى بإنتاجه الدرامي الخاص الذي يجد حظوته على امتداد دول الخليج نفسها.

هل ظلّ مؤشر الأداء الإعلامي والدرامي -العربي عموماً والمصري تحديدا- صاعداً باستمرار استناداً إلى سنّة التطوّر التي تشمل كل ما في الحياة؟ الأرجح أن ذلك المؤشر قد اتّبع سنّة أخرى في الحياة هي تقلّب الحال فاتخذ شكل المنحنى وظل يتذبذب صعوداً وهبوطاً إنْ من حيث الشكل أو المضمون. فأعمال اليوم الدرامية أو الإعلامية عموماً ليست أفضل بالضرورة من أعمال الأمس. وعندما نأخذ معايير النسبية في التقييم تبرز لا محالة أعمال رائدة ظهرت قبل عقود متقدمة على أخرى عُرضت مؤخراً أو حتى تعرض في رمضاننا هذا.

بالحديث عن النصوص الفريدة للأعمال الدرامية التلفزيونية التي يخطف بطولتَها المؤلف، يظل السقف الذي رفعه عملاقان هما محفوظ عبد الرحمن وأسامة أنور عكاشة ذروة في التأليف الدرامي التلفزيوني لم يصل إليها من حيث القيمة الفنية المحضة وعمق التأثير في الجماهير كاتبٌ من بعدهما، وذلك حديث تفصيلُه طويل وعريض.

فقد انتهت على ما يبدو نجومية الكاتب الذي يبسط سيطرته على العمل، وانتقلت سطوة الدراما التلفزيونية لا أقول إلى المخرج ابتداءً ولا حتى إلى ممثل نجم بعينه وإنما على الأرجح إلى سلطة الإنتاج الضخم الذي يخلع سحره على العمل بحيث يبدو المخرج في كثير من الأحيان والحال كتلك مستفيداً (وربما مبتهجاً) من إمكانيات إبهار عظيمة تكاد تسرق الأضواء حتى من براعته الفنية المجرّدة. أما ما يتعلق بالممثل النجم، فلم تعد بطولات دراما رمضان حكراً على أسماء بعينها قدر ما أصبحت مجالاً للصعود بأسماء جديدة نسبياً على اختلاف مستويات وسماوات النجومية.

الفوازير بوصفها أعمالاً استعراضية ضخمة ورائدة تراجعت وأوشكت أن تختفي. وإذ شملت فوازير العقدين الأخيرين أسماء ممثلين وممثلات ومخرجين ذائعي الصيت، فإن الأرسخ حضوراً وألقاً في ذاكرة التلفزيون العربي الرمضاني ريادةً وتأثيراً لا يزال على ما يبدو من نصيب نيللي وسمير غانم (فطوطة) وشريهان وفهمي عبد الحميد، وذلك بتجاوز البدايات التلفزيونية الرائدة لثلاثي أضواء المسرح، وذكريات إرسال الإجابات مجمّعة آخر الشهر بالبريد في انتظار جوائز لا تقدّر بمال، هذا قبل أن يصبح المشاهد نفسه هو مصدر المال الأساس في لعبة الجوائز التلفزيونية طوال العام على نحو ما نرى الآن.

مثل المسلسلات والفوازير، لم تقدّم برامج التلفزيون الرمضانية جديداً في الشكل أو المضمون باستثناء المزيد من الجرأة التي لا يتردد البعض في وصفها بكونها كثيراً ما تتجاوز ما هو لائق، سواءٌ عبر برامج الحوار أو الكاميرا الخفية أو ما شاكلها. وهنا بات المتواطئ الأكبر هو النجم المستضاف نفسه الذي يقبل أداء دور الضحية بدرجة أو أخرى لقاء مبلغ من المال أو طمعاً في إبقاء الأضواء ورضا المؤسسات الإعلامية الضخمة المنتجة مسلطاً عليه.

تلك سياحية نفسية (أقرب إلى النوستالجيا) أكثر من كونها قراءة نقدية أو موازنة لأعمال فنية موزعة بين أزمنة عديدة يجمعها شهر كريم. هذا، ولا أنصح مطلقاً بأن يؤخذ أي مما ورد آنفاً على أنه إشارة إلى أن زمان “الفن الجميل” قد انتهى، فالأمر كما أشرنا لا يعدو أن يكون سنّة الأيام يداولها الخالق بين الناس فيما يتعلق بعنفوان السلطة والمجد على كل صعيد بما في ذلك الفن وأهله في رمضان وغيره من شهور السنة المغلوبة على فنّها.