محمد توفيق: بعد انتهاء "الملك والكتابة" شعرت أني أكملت تعليمي!

بشري عبد المؤمن

يعتقد الكثيرين أن المحاور هو مالك الحوار وقائده وتلك حقيقة، نعم واضع السؤال قد يكون هو واضع الإجابة ومحدد مسارها، لكنى دخلت إلى عالم “محمد توفيق” بلعبته هو، وقفت على الجانب الأخر منه، أسأل وأناغش وأهاجم أحيانا، رميت العملة فى الهواء، واتفقنا أنها إذا نزلت “ملكا” فهو الفائز، وإذا تفضلت علي فهي “كتابة”، هنا حوار بين صحفي وآخر، يدور الحديث فيه كما تدور العملة في الهواء وللقارئ وحده أن يحدد هل كانت ملكا أم كتابة؟!

كل مشارعيه كانت تخدم “الملك والكتابة” حيث يسحب الجميع لمنطقته، “رجب والأبنودى” سيرة ذاتية، “تحية كاريوكا” لعبة أرشيف وتحقيق، “صناع البهجة” مشاهد من حياة من أضحكوه وأضحكونا، لكن تبقى الصحافة هي البطل الأول في كتبه، وربما تظهر تلك الصورة جلية في كتاب “علي وصفية” فكلما أخذته الحكاية إلى صنعة “الرواية” أخذها هو لصنعة “الصحافة”، وربما لذلك يقرأ الجريدة من الصفحة الأخيرة ويترك الأولى لصحافة البيان لذا حينما خاض تجربته الخاصة كرئيس تحرير أهتم بالصفحة الأولى، هو الكاتب الصحفي “محمد توفيق”.

لاحظت فى ثلاثية الملك والكتابة أن “توفيق” كان يبتعد كثيرا عن استخدام الهامش، فهل أراد أن يقول إن التاريخ لا يوجد به هامشا بل كله متنا؟ أم هى محاولة لكتابة التاريخ من وجهة نظر “محمد توفيق” بعد هضم كل ما قرأ؟ يعلق توفيق: “أن يوضع التاريخ في الهامش أو في المتن هي رؤية تعود للكاتب، ببساطة لأن الهامش عند كاتب متنا عند أخر، فعندما تعيد بنفسك كتابة التاريخ لا يمكن أن تكتب متن الأخرين فكتابك هو هامشهم.

هنا طرحت سؤالا أخر: وهل يوجد ما هو هامشا في التاريخ؟ قال: “ما هو الفارق بين الهامش والمتن؟ اهتمامات الكاتب نفسه هي التى تحدد، أما بالنسبة لعدم استخدامي للهامش فتلك طريقتى حتى لا يمل مني القارئ، لا أريد أن ينصرف عني ولو من أجل هامش! فعند إطلاعي مثلا على ثلاثة مصادر من أجل صياغة جملة واحدة في الأغلب تخرج جملة جديدة مختلفة لي وأذكر المراجع الثلاثة فى نهاية الكتاب تحت عنوان “كتب ملهمة” فرد الحق لأصحابه يأتي في عدة أشكال مختلفة، كذلك تحاول من جانبك الحفاظ على حقك أنت في رواية التاريخ من جانبك”.

المتأمل لثلاثية “الملك والكتابة” يرى أن السياسة دائما ما صنعت صحافتها لكن سؤالى لتوفيق كان: هل حدث العكس؟ بمعنى هل جاءت الصحافة يوما برئيس أو بسياسة حكم؟ يجيب: “في رأيى أن صحافة مصطفى كامل مثلا في “اللواء” كانت تمثل صناعة الصحافة لزعيم وطني، فتاريخ مصطفى كامل الأساسي هو تاريخ الخطب التى نشرت في مقالات جريدة “اللواء”، وكذلك تاريخ النضال السياسي في تلك الفترة كان قائما على الصحف، وما بعد ثورة 19 جاء “الوفد” الذى رأى الناس أنه صانع صحافة، في حين يرى البعض أن الصحافة هي من ضخمت “الوفد”، ففي الفترة من بداية العشرينات حتى نهاية الأربعينات لا تستطيع أن تحدد من صنع من؟ العلاقة بين الصحفي والسلطة دائما مرتبطة بالظروف المحيطة للدرجة التى تجعلك تحتار من صنع من؟ فهناك شهادات تقول أن هيكل من صنع عبد الناصر مثل أنيس منصور ومصطفى محمود”.

أرى “توفيق” صحفي متعدد المواهب، وكذلك الأقسام، يستفيد مثلا من كونه صحفي تعليم في قراءة الكتب والوثائق وخلافه، أي على مستوى تلقي الفكرة والموضوع وصياغة خطه الدرامي، في حين يظهر المنتج النهائي للكتاب فتشعر أنك أمام صحفي ثقافة من الطراز الأول، على الرغم من أنه لم يكن يوما صحفي ثقافة فكيف ذلك؟ يجيب: “أعمل بمنطق التلميذ نفسه لا صحفي التعليم، قراري منذ البداية هو التعلم، هناك كاتب يكتب ليعلم القارئ أما أنا فأكتب حتى أكمل تعليمى، وأرى أن الكتابة دائما تتيح لي الاطلاع على كتب ومراجع بدون الكتابة ربما لم أكن أعود إليها، القراءة بدون الكتابة تذهب بي إلى الكتب الممتعة مثل الشعر، في حين القراءة بهدف الكتابة فهي دافع رئيس لقراءة كتب لم أكن أقرأها، ولابد ألا يفقد الصحفي إحساس التلميذ وهو يعمل، أعمل على الفكرة لشهور قبل البدء فى الكتابة حتى تكتمل”.

فى “الملك والكتابة” تتأرجح الصحافة فى علاقتها مع السلطة ما بين ازدهار وانحسار، ضوء وانطفاء، حرية ومنع، فإذا أردنا أن نتوقف عند أبرز الأعوام الفارقة فى تاريخ الصحافة المصرية على مدار قرنين من الزمن عند أى السنوات نتوقف؟

يرى توفيق أن أقوى سنوات الصحافة “في القرن التاسع عشر بالنسبة لي هي تلك السنة في نهاية عشرينات القرن والتى كان محمد علي يصنع فيها بيده جورنالا ويعمل رئيسا لتحريره، تأتي بعد ذلك سنوات الخديوي إسماعيل، كانت سنوات هائلة في صحافة مصر من 65 لـ70، ثم الفترة الأهم وهى فترة الثورة العرابية 1882 وهى أزهى فترات القرن التاسع عشر في مجمله، كنت مشغولا في تلك السنة تحديدا بقول ما هو مختلف عما قرأناه، أما في القرن العشرين فحدث الإزدهار مع قصة “علي يوسف” ومع جريدة “اللواء” حدث إزدهارا أخر، أما أفضل فترات الصحافة على الإطلاق فكانت في الفترة من عام 28 وحتى 48، لأن العلاقة بين الصحافة والسلطة في مصر فى تلك الفترة كانت علاقة استثنائية تشبه “التنس” ولا تشبه “الملاكمة”، قد أغلق لك جريدة لكنك تستطيع فتح أخرى ومهاجمتى أيضا! ثم الفترة التى تلت ثورة يوليو لكنه كان إزدهارا من نوع أخر، هو “صناعة الصحافة”، أصبحت الصناعة مؤسسية بفضل مصطفى أمين وهيكل، مصر لم تعرف المؤسسة الصحفية إلا مع أمين وهيكل، كانت الصحافة قبلهما تشبه “الورشة” أو “صحافة المدارس” وبعدهما أصبحت صحافة تشبه الصحافة العالمية من حيث الصناعة والمؤسسة، وكل إزدهار عظيم صحبه إنكسار مهول! لكن أسوأ فترات الصحافة على الإطلاق هي ما بعد الثورة العرابية”.

يكتب “توفبق” قصته الخاصة عن مهنة الصحافة على مدار قرنين، وفى كل سنة مئة ألف قصة ولكل قصة ألف شاهد، فما هى الضوابط التى وضعها لنفسه فى كتابة قصة دون أخرى؟

يجيب توفيق: “طوال الوقت تظل هناك القصة الناقصة، لذا هناك أكثر من معيار، هل تريد توجيه الصحافة لفكرة معينة؟ هل تريد قول أن فلان فاسد وفلان عظيم؟ لم يكن لدى هذا التوجه أبدا لا في الكتابة ولا في الحياة ذاتها، أترك الصحفي في تناقضه على الورق أمام الناس إن كان ثمة تناقض، بعض من قرأ الكتاب ظن أنني أكره هيكل وهو عكس ما أرى، بل أعتبر هيكل هو “وحدة قياس الصحفي”، المعيار الأول: هو اختيار الحدث الأبرز في السنة، المعيار الثاني: البحث عن الحدث الذي يفيد الحكاية المركزية في السنة، المعيار الثالث: أن تسلم القصة العام التالي، الخط الدرامي دائما هو المحرك، والمعيار الأهم كان حجم الحدث في حينه وليس الآن، فمثلا عام 48 لم تذكر الصحافة هزيمتنا ولا سميت نكسة، تم صك مصطلح “نكبة” بعد 52، وكذلك ربط الأجزاء ببعضها البعض، فالرابط بين الجزءين الأول والثانى هو علي يوسف، والثانى والثالث بإحسان عبد القدوس”.

استبدلت منطق “قتل الأب” مع توفيق بمنطق “قتل الصديق” وصارحته أنني شعرت بانحياز ما لبعض الأسماء، وقلت له شعرت أنك تحب الكتابة عن صلاح جاهين وأحمد رجب فظهروا بشكل أكبر، يبدو أن سؤالي استفزه فلم يجيبه فقط بل أطلعنى على سر راوده أثناء الكتابة فقال: “في لحظة من اللحظات فكرت أن أبنى الكتاب كله بأجزاءه الثلاثة على صلاح جاهين” فسألته كيف؟ قال: “من خلال كتابته على شكل ثلاثة أجيال، جيل أحمد حلمى في القرن التاسع عشر، وصلاح جاهين فى الجزء الثانى، وبهاء جاهين في الثالث، كأنها رواية من ثلاثة أجيال، كيف رأى الطفل أحمد حلمى الصحافة في القرن التاسع عشر، ثم يكبر ويصبح واحد من أكبر صحفيين الثقافة في مصر ثم يترك الصحافة في لحظة ميلاد صلاح جاهين ويتابع صلاح صحافة عصره حتى يأتي بهاء جاهين، عندما تبنى الرواية أحيانا تنيها بالحدث أو المكان أو بهامش الشخصيات، صلاح جاهين بعد 67 كانت مصر كلها متمثلة في شخصه، أما أحمد رجب فأراه التاريخ الإجتماعي لمصر، فإذا أردت أن تعرف مصر عليك أن تعود لنص كلمة”.