حكاوي العكاوي (4).. شاورما دمبلدور

مينا فريد

(1)

أثناء مرور الحجاج الأتراك على بلاد الشام للاستراحة كانوا يقومون بتقطيع اللحم لشرائح ثم يضعونها في سيخ من الحديد ثم يشعلون النار ويتركونها لتطيب.

هناك بعض الأشخاص من بلاد الشام رأوهم يفعلون هذا فأضافوا له الخبز وقاموا بلفه وأضافوا بعد الخضروات بطرق مختلفة، وتطورت ما بين بلاد الشام وتركيا بأشكال مختلفة حتى وصلت لـ “سنسونه” أو دمبلدور الفيومي في أوائل الألفية الجديدة.

نرشح لك:حكاوي العكاوي (3) .. السر وراء مدبولي

(2)

أمي تحكي عن أسطورة متعلقة بمحل مأكولات شهير في الفيوم – حيث قضيت سنوات عمري الأولى – تقول الأسطورة:

“سنسونه – وهو اسم مستعار للاسم الأصلي – يبيع ساندوتشات اللحوم المصنعة من لحوم القطط و الكلاب الفاسدة – لاحظ الإجرام .. ليست فقط قطط وكلاب ولكنها أيضا فاسدة – تستكمل أمي أسطورتها بتأكيدها أن هذا المحل تم غلقه مرّات عديدة و لكن سنسونه نفسه بسبب علاقاته قام باسترجاعه “

كطفل.. كل الممنوع هو هدف وحلم وتحدي ومنشط للخيال وأريد الحصول عليه.. أظن أني لازلت هذا الطفل.

أصبحت أراقب سنسونه في كل مرة أمر بجوار المكان.. ولاحظت الزحام وانسجام الزبائن، ووجدت ما أكد لي خداع أمي لي.. وأخذت الأمر بجدية شديدة، وجدت قطط تمشي بين الطاولات، إذن هنا لا يذبحون القطط.

حتى شاهدت في مرّة منظر مهيب.. رجل طويل القامة يرتدي جلباب وبلحية طويلة بيضاء بالكامل مضاف لبياضها حمار من الحنة وبنظارة طبية وغطاء للرأس وفي الخلفية إضاءة خضراء ورائحة نفاذة ناتجة عن اختلاط الثوم المفروم بالخل وبالفلفل المخصص للكبدة مع الكمون والتوابل.. كان شكلا أقرب ما يكون لدمبلدور في هاري بوتر.. وما يفعله تعويذة جاذبه للزبائن. وقتها كنت لا أعرف هاري بوتر، ولا أعرف هذا الرجل، أيا كان.. هذا الرجل كان ساحرا لا شك في ذلك، لا ينقصه سوى بلّورة سحرية بدلا من الساندوتشات.

تلاقت عيوننا للحظة وأحسست برهبة وتخيلت هذا الرجل الطيب هو سنسونه ذات نفسه قاتل القطط والكلاب وتخيلته يذبحهم بدم بارد ثم يترك لحمهم يفسد قبل أن يطبخه لنا.

نعم تخيلت كل هذا.. ولكني أيضا اشتهيته، حتى جاء يوم جمعة في صيف أغسطس ما من التسعينات.

(3)

لقد جاء أبي في أجازة من عمله بالقوات المسلحة.. أجازات أبي لا تتعدى الأيام القليلة ودائما ما أكون خائفا فيها.. ستقول له أمي على أي أخطاء ارتكبتها في غيابه، ولهذا يجب توخي الحذر، أبي هنا لأيام قليلة لا يجب علينا إغضابه، ولهذا علينا بالتزام حد الأدب الأقصى.. أمي لم تفعلها أبدا وتحكي له ما يزعجه ولكنها دائما تقولها.. وأنا دائما أصدقها.
اصطحبني أبي باسما معه “حتى أكون راجل” وأفهم ماذا يفعل الميكانيكي في السيارة.. لقد كنا نملك سيارة فيات وكنت مقتنع أن أبي يعمل كي نأكل ويدفع للميكانيكي ثمن تصليح السيارة.

كان يوما مملا لطفل ولكني لا أنساه.. لقد قرر أبي مكافئتي على صمودي اليوم كله، لازلت أتذكر خطواتي ممسكا بيده ومتابعا لأغطية المياه الغازية المنغرسة في الأسفلت الطري بسبب حرارة الجو الشديدة، وقال لي ببساطة أنه قرر أن يصحبني لنأكل من “سنسونه”.. سنسونه؟

قاتل القطط والكلاب ومعذبهم؟، ستصحبني لهناك لأستمتع بأكل من يد هذا الساحر حقا؟، كنت أخشى أن تعرف أمي، وكنت سعيدا بشدة لكسر الممنوع، يومها أكلنا وأنا لا أستطيع الانتظار لكي أحكي لأصدقائي، لا أتذكر طعم الأكل ولكني أتذكر متعة المغامرة، ولم أقل لأمي أبدا هذا السر، ولكن بعدها زرته مرارا.. ولم يكن قد قام بعمل الشاورما بعد.

(4)

اصطحبني عمي لمحل سوري شهير في المهندسين وأنا طفل في شتاء تسعيناتي بسيط.. أتذكر تعلقي بإعلانات الشوارع بالقاهرة كالعادة واللافتات الملونه وشغفي لمعرفة: ماذا سيفعل عمي معي اليوم؟، دائما ما كان عمي هو نافذتي للقاهرة ومطاعمها المختلفة كليا عن الفيوم، كنت على موعد مع الانبهار، أوقف السيارة في شارع جانبي من حي المهندسين، كان مطعم سوري، كان اسمه أبو شخص ما – لا أتذكر الاسم ولكن دائما ما تكون المطاعم السورية أبو شخص ما – كان مطعما مزدحما بشدة و كان وجود شيف سوري من سوريا نفسها حدثا مميز جدا وقتها!

كان يخبز الخبز أمامنا فوق نصف كرة من المعدن مقلوبة بشكل محدّب، وضغط الخبز بوسادة حتى يطيب ويقوم بكل الخطوات السورية المعتادة للشاورما التي اعتدنا عليها، طبقة من الثومية، شرائح من الخيار المخلل، وقطع من لحم الدجاج الذهبي، كان الخبز الساخن يسبب في الأجواء الباردة سحابة خفيفة ناعمة سرعان ما تختفي، ورائحة الثومية تملأ الأجواء صخبا وانتعاشا، وقطع الدجاج المشوي بلونه الذهبي تداعب العيون، توقف الزمن حتى قال هشام عباس يغني من كاسيت سيارة ما بها سماعات ستريو و “أوكلايزر”، “أنا قلبي و عيني عليكي الليلة.. خليكي معايا الدنيا جميلة..”.

ويومها بدأت رحلتي الحقيقية مع الشاورما، التي ستعود إلى دمبلدور الفيومي.. ومنافسيه.. الحلقة القادمة.