"الوباء الذي قتل 180 ألف مصري".. آثار الإنفلونزا الإسبانية على مصر

أسماء شكري

أصدرت دار الشروق الطبعة الأولى من كتاب “الوباء الذي قتل 180 ألف مصري” للدكتور محمد أبو الغار، والذي يرصد فيه بالوثائق والمستندات تفاصيل وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي اجتاح العالم منذ عام 1918 وجاء في موجات متتالية، وأدى إلى مقتل ما لا يقل عن 50 مليون إنسان.

الكتاب يعد دليلا مهما يكشف تفاصيل هذا الوباء الذي اجتاح مصر في تلك الفترة وقتل عشرات الآلاف من المصريين، وفي مقدمة الكتاب يوضح أبو الغار أنه بدأ يتتبع الأوبئة التي حدثت في العالم ويربطها بوباء فيروس كورونا الذي اجتاح العالم في نهاية 2019 ومستمر حتى الآن، ووجد أن البعض يربطون ما بين كورونا والإنفلونزا الإسبانية من حيث درجة عنف كل منهما وقتلهما لأعداد هائلة من البشر.

نرشح لك: نرشح لك: 12 كتابا عن فن الرواية وأساليبها

توصل أبو الغار إلى حقيقة غريبة وهي أنه خلال بحثه عن تاريخ الإنفلونزا الإسبانية لم يجد أي من كتابات المؤرخين في تلك الفترة قد كتبوا عنه أو أشاروا أنه أصاب مصر، لدرجة ان البعض ذهب إلى أن الإنفلونزا الإسبانية لم تصل إلى مصر من الأساس، وقرر أبو الغار البحث والتقصي للتأكد من تلك المعلومات، فكانت المفاجأة بأن هذا الوباء بالفعل ضرب مصر من عام 1918 وحتى عام 1920 بل وقتل ما يقدّر بـ 180 ألف مصري!

بداية الخيط

كانت بداية الخيط بحث صغير أعده د. كريستوفر روز في قسم التاريخ بجامعة تكساس، رصد وباء الإنفلونزا الذي ضرب مصر في نهاية الحرب العالمية الأولى وقتل عشرات الآلاف، وحصل محمد أبو الغار على هذا البحث وتواصل مع د. روز، الذي ساعده في الحصول على وثائق ومستندات من جامعة تكساس تختص بالصحة العمومية في مصر للسنوات من 1914 وحتى 1927، وتصف بدقة شديدة احوال المصريين الصحية وقتها.

حصل أبو الغار أيضا من الجامعة على تقرير د. ويلسون الذي رصد أحوال المصريين خلال تلك الفترة بهدف التحقيق في أسباب ثورة 1919، ومن هذه الوثائق بدأ أبو الغار رحلة البحث في هذا الكتاب المهم، عن وباء حصد أرواح عشرات الآلاف من المصريين في فترة تاريخية وسياسية مهمة.

جاء الكتاب في سبعة فصول، واشتمل ليس فقط على تفاصيل الإنفلونزا الإسبانية في مصر والعالم، وإنما حرص أبو الغار على أن يكون شاملا وربطه بالأوضاع السياسية والصحية في مصر خلال تلك الفترة، ودعمه بجداول ووثائق ومستندات أصلية وصور عن الوباء لم تُنشر من قبل، وبدأ الكتاب بفصل يشرح تاريخ الأوبئة بشكل عام وأوضح باستفاضة أشهر الأوبئة التي أصابت البشر مثل الطاعون والكوليرا وغيرها.

في الفصل الثاني شرح لنا أبو الغار الوضع الصحي في مصر خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكيف كانت خطة الدولة وقتها لمقاومة الأوبئة، فيوضح لنا أن الاحتلال البريطاني كان مهتما أكثر بحماية جنوده ومعسكراته من الوباء والأمراض، ونتج عن ذلك تدهور شديد لصحة المصريين خاصة من المدنيين، والذين أُصيبوا بسوء التغذية والهزال نتيجة تردي الأحوال الاقتصادية وانتشار الجوع والفقر وارتفاع الأسعار، وهو ما ساهم في اندلاع ثورة 1919، والتي حدثت في ظل وجود الإنفلونزا الإسبانية في مصر.

سبب تسمية الإنفلونزا بالإسبانية

يشرح لنا أبو الغار في كتابه سبب تسمية الإنفلونزا بالإسبانية؟ موضحا أن السبب ليس أنها بدأت في إسبانيا؛ مشيرا إلى أن الدول المشاركة في الحرب العالمية الأولى منعت نشر أية أخبار عن الوباء حفاظا على الروح المعنوية للجنود، ولكن إسبانيا التي كانت على الحياد أثناء الحرب نشرت صحفها كل تفاصيل الوباء؛ لذلك أُطلق عليه الإنفلونزا الإسبانية.

بداية ظهور الوباء في مصر

يعرض الكتاب تقريرا طبيا عن الوضع الصحي في مصر لعام 1918، كتبه الكولونيل جارنر المدير العام للصحة الوقائية لمصر وقتها، والذي يوضح أن الإنفلونزا الإسبانية بدأ ظهورها في مصر في مايو 1918 بدرجة بسيطة حتى أغسطس بدون تأثير على نسبة الوفيات العامة، وفي سبتمبر تطور الوباء وأصبح أكثر شراسة وفتكا؛ حتى غطى كل أقاليم القطر المصري، ووصل إلى قمة الانتشار والخطورة في ديسمبر من نفس العام، وفي أوائل 1919 بدأت الإصابات في الانخفاض.

ثلاث موجات للوباء

الموجة الأولى بدأت من مايو إلى أغسطس 1918 وانتشر المرض في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والدقهلية، ولم تكن نسبة الوفيات جراء الوباء مرتفعة.

الموجة الثانية بدأت من سبتمبر إلى آخر ديسمبر 1918، وظهرت المضاعفات للوباء بشدة وزادت نسبة الوفيات في كل أنحاء القطر المصري، واعتبرت تلك المرحلة الأشد فتكا وخطورة في الوباء.

الموجة الثالثة بدأت في مارس 1919 بالتزامن مع بدء ثورة 1919، وكانت أقل وطأة من المرحلتين السابقتين.

سبب وصول الوباء لمصر

يرصد تقرير جارنر أن سبب وصول الوباء إلى مصر عن طريق السفن القادمة من أوروبا، وانتشار الوباء بين الجيش البريطاني وبالتالي وصوله إلى المصريين في كل مكان بالقطر المصري.

نرشح لك: غلاف عالم الكتاب ليس الأول.. 6 أغلفة لمجلات أثارت الجدل

طريقة مقاومة الوباء

يرصد الكتاب تقاريرا ووثائق عدة للصحة العامة في مصر وقتها وطريقة مقاومة الوباء، ويتضح أنها تتشابه كثيرا مع نفس الإجراءات الاحترازية التي يتبعها العالم الآن لمحاربة فيروس كورونا، والتي تتمثل في العزل الصحي والتباعد الاجتماعي وغسل الأيدي وغلق المدارس والمصالح الحكومية والمصانع والمحلات وغيرها، مع فارق مهم أنه وقتها لم تكن الفيروسات قد اكتشفت بعد ولم يحدث هذا التقدم في الطب حاليا، مما يؤدي إلى نتيجة يوضحها لنا الكتاب، وهي أن كورونا مهما توحش لن يقتل نفس الأعداد التي قتلتها الإنفلونزا الإسبانية، نظرا لتطور الأنظمة الصحية حاليا بعد أكثر من مائة عام، وانتشار الوعي الصحي ما بين الناس والتقدم العلمي الهائل في مجال اللقاحات والأمصال والتجارب الإكلينيكية وغيرها.

الإنفلونزا الإسبانية في صحف مصر

خصص محمد أبو الغار فصلا كاملا نشر فيه حديث الصحف المصرية وقتها عن الوباء، وهو ما أكد لنا كيف كان حجمه ومدى خطورته، من خلال تحذيرات أبرز الصحف وقتها مثل الأهرام والمقطم، ونشرها لتحذيرات الحكومة ووزارة الصحة للناس، وإرشادات الوقاية من الوباء وكيفية العزل والتعامل مع المرضى وخلافه.

الفصل الأخير من الكتاب يرصد وباء كورونا وبداية انتشاره من ووهان بالصين وتفاصيل أعراضه والجهود العالمية لمقاومته، كما يوضح الآثار الاقتصادية المحتملة له على العالم، ويربطه بوباء 1918، إذ يقول محمد أبو الغار إن كورونا سيقتل أعدادا أقل مما قتلتها الأوبئة في العصور الماضية ومنها الإنفلونزا الإسبانية، مؤكدا أن تأثيره على البشرية سيكون أكبر بكثير وسيغطي على آثار الإنفلونزا الإسبانية.

أوضح أبو الغار أن السبب هو أن فيروس كورونا جاء في عصر وسائل التواصل الاجتماعي وانفتاح العالم وسهولة الحركة ما بين القارات والدول، مما سيكون له أثر أكثر سوءا من الأوبئة الماضية من حيث تدهور الاقتصاد وتأثيره على سوق العمل والصناعة والتجارة التي تعتمد بشكل أساسي على شبكات متصلة متوفرة حاليا بكل سهولة.

الأثر النفسي لكورونا

أشار محمد أبو الغار إلى أن وباء كورونا المستجد سيتخطى كل الآثار السيئة للأوبئة التي سبقته، لافتا إلى أن كورونا سيؤدي إلى ضغط شديد على الاقتصاد العالمي وكذلك النسيج الاجتماعي، لما سيحدثه العزل والتباعد من آثار نفسية سيئة على الأشخاص، وهو ما أثبتته بعض الدراسات مؤخرا حول التأثير النفسي لوباء كورونا.