لبنان الذي لا يرتاح

فرح بعلبكي

ما زال مشهد أبي يحملني في الليل وأمي معنا نهرع إلى سيارتنا لنذهب إلى بيت جدي ونقضي الليلة هناك فمعارك شرق صيدا اشتعلت والرصاص كزخ المطر يسمع، وكانت بيجامتي لونها زهر، أذكرها جيدا.

 

نرشح لك:سمير عطا الله يحكي ما جرى له في انفجار بيروت

 

بعد سنوات قليلة، سنسمع أصوات أقوى ونختبأ أنا وأمي وأخوتي الصغار في “كوريدور” منزلنا في صيدا لأن العميل انطوان لحد يقصف الجنوب ومناطق في شرق صيدا، وطائرات العدو الإسرائيلي تحوم في الأجواء.

وبعدها بقليل سنتسمر أمام شاشة التلفزيون ونشاهد مجزرة قانا، التي استشهد فيها الآلاف وهم يختبئون من العدوان، ولا أنسى مشهد الأب الذي يحمل طفلته ذات الأعوام الاثنان أو الثلاث وهو يمشي في الطرقات يبكيها والدم يملأ جسده من رأسه حتى أخمص قدميه وأنا طفلة لا أتجاوز الثمانية أعوام.

وبعدها بسنوات قليلة يتحرر الجنوب ونتنفس الصعداء ونقول أننا انتهينا من العدو والوحش ولم نكن نعلم أن وحوشا داخلية في انتظارنا.

قبل تخرجي من المدرسة بسنتين نجلس أمام شاشة التلفزيون ونشاهد غير مصدقين استشهاد رفيق الحريري ورفاقه… وبقينا أربعة أيام أمام التلفزيون غير مصدقين.

قدمنا امتحانات الثانوية العامة ونجحنا وحضرنا حفل تخرجنا، بعد أيام قليلة وقبل أن أسجل بالكليات التي أردت الانضمام إليها بدأ عدوان تموز/ يوليو 2006. ثلاثة وثلاثون يوماً ونحن نشهد الدمار ونتطوع في الجمعيات لإغاثة الأهالي وقبل يومين من انتهاء الحرب نستفيق على أربعة صواريخ تدمر شركة الكهرباء التي تبتعد شارع واحد عن منزلنا ونقول “الله نجانا”.

بين 2005 و 2006 تم اختياري للمشاركة في ورشة عمل دامت أسبوعين مع واحدة من جمعيات المجتمع المدني في لبنان وكان مخيماً في دير في جبل لبنان. كان هدف المخيم توضيح مفهوم التمييز بكافة أنواعه. وكان المشاركون من الشباب بين 16-18 سنة وتعرف المسلم على المسيحي والدرزي على شركائه في الوطن وخرجت أنا شخصياً بتجربة مهمة وهائلة غيرت من مفاهيمي ونظرتي إلى الآخر الذي يعيش معي في لبنان.

دخلت الجامعة واخترت كلية الإعلام.. ثلاث سنوات في الجامعة ونحن من حادث إلى آخر.. بدأنا بمظاهرات طويلة الأمد في وسط بيروت إلى أحداث الجامعة العربية إلى أحداث 7 أيار وأيام.

كنت أجلس إلى مكتبي وأنا أعمل في إحدى الجمعيات الأهلية في صيدا وإذ يبدأ صوت الرصاص يتصاعد ويتطاير حولنا.. نهرع إلى منازلنا ونعلم بعد قليل بأن أحمد الأسير (الشيخ المتعصب) بدأ هو وجماعته هجوماً على الجيش اللبناني.

ناهيك عن قطع الطرقات والرصاص الطائش والاغتيالات السياسية المتتالية التي من عددها لم أعد أذكرها.

كل هذه الأحداث تدور في رأسي وأذكرها ولا أستطيع أن أمحوها من ذاكرتي، لا أستطيع، وبالتأكيد هناك أحداث نسيتها… صوت الرصاص في أذني، صوت الدمار والصراخ يدق في صدري، شعور غريب لا يمكن وصفه، أشعر بأن تلك الأصوات تأتي من داخل معدتي في صعود سريع إلى صدري ويختنق في حلقي.

وأنا أقضي شهر العسل مع زوجي في الجونة أستيقظ في منتصف الليل على صوت بعيد ولكن لا أدري لماذا أستيقظ مفجوعة وأصرخ “طيران اسرائيلي.. طيران.. قصف” قد تبدو الحادثة مضحكة ولكنها مؤلمة.. نحن هكذا نشعر بالخوف وعدم الأمان دوماً والأخطر أننا بتنا نقول “عادي” “تعودنا”.

أما المخيم الصيفي الذي شاركت فيه وتعلمنا أن لا فرق بين مسلم ومسيحي وتعلمنا أن الوطن والتربية المدنية هي الأهم، أرى اليوم زملاء هذا المخيم كيف عادوا واصطفوا خلف زعمائهم وطوائفهم للأسف.

كل هذه الأحداث في 30 سنة، أفكر ماذا لو أبي وأمي كتبوا مذكراتهم.. سنضيف عشرين سنة أخرى، حرب لبنانية والاجتياح الاسرائيلي و…و…و… أم ماذا لو جدتي كلمتنا عن لبنان في الأربعينات والخمسينات.

اليوم أجلس على كنبتي في الإسكندرية أشاهد الانفجار ومشاهد الدمار والضحايا أبكي بيروت، وأبكي ذكرياتي، وأبكي كل لحظة عشتها هناك، وهذه المرة داخلي غضب لا أستطيع التعبير عنه ويمر شريط الأحداث السابقة في رأسي وكأنه البارحة، إنه لبنان الذي لا يرتاح.. من أجل ماذا؟

نرشح لك: بعد الانفجار.. ماجدة الرومي: البعض فقدوا القدرة على تعريف أنفسهم في المستشفيات