"عيار ناري".. الأفلام ليست منشورات سياسية

أندرو محسن

منذ أسابيع قليلة كان العرض العالمي الأول لفيلم ”عيار ناري“ على هامش مهرجان الجونة السينمائي. حصل الفيلم على العديد من الآراء السلبية قبل بداية عروضه التجارية منذ أسبوع. لكن معظم الآراء انحصرت في أن الفيلم يسيء إلى ثورة يناير وشهدائها، ويضرب ثابتًا مهمًا من ثوابت الثورة.

لكن من قال إن الفيلم عليه أن يكون مُخلصًا للحقيقة أو للواقع؟

فيلم أم منشور سياسي؟

في السنتين الأخيرتين تكررت أحداث مشابهة، التعامل مع الأفلام من وجهة نظر سياسية بعيدًا عن مضمونها الفني أو مستواها.

نرشح لك.. تعرف على أحدث إيرادات يوم الدين وعيار ناري

في عام 2016 بالتزامن مع عرضه في مهرجان كان، ظهر تقرير تليفزيوني يدين محمد دياب مخرج ومؤلف فيلم ”اشتباك“ ويعترض على آرائه السياسية، وهذا قبل عرض الفيلم في مصر، وقد ظهرت نفس هذه الاعتراضات مرة أخرى على السطح بعد عدة أسابيع قبل العرض التجاري للفيلم بأيام، وإن كان الفيلم الذي لم ينحز لأي من أطراف قضيته قد نجا بسهولة من هذه الضجة.

لم يقتصر الأمر على الأفلام المصرية فقط، بل امتد إلى فيلم ”قضية رقم 23“ للمخرج اللبناني زياد دويري في العام الماضي، ذلك لسببين رئيسين، أحدهما هو تصوير المخرج لفيلمه السابق ”الصدمة“ داخل دولة الاحتلال الإسرائيلية، وبالاستعانة بفريق عمل إسرائيلي، أما السبب الثاني فهو متعلق مباشرة بالفيلم، إذ يُقدم صراعًا بين لبناني وفلسطيني، يتطور إلى نزاع في المحاكم وقضية رأي عام، وأثناء هذا يمر على عدة خلفيات متعلقة بالشخصيات تلقي الضوء على بعض الأحداث التي وقعت في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، بالإضافة للتعرض إلى مذبحة الدمور في لبنان، وهو ما رآه كثيرون تحاملًا على الفلسطينيين بشكل واضح.

هوجم الفيلم عند عرضه في مهرجان الجونة السينمائي في دورته الأولى، وعند عرضه بشكل محدود في سينما زاوية، طالبت الكثير من الأصوات بوقف العرض، وهذه المرة أيضًا لم يكن هناك حكمٌ واضح على المستوى الفني للفيلم، أو الطريقة التي صاغ بها المخرج أفكاره، عومل الفيلم من وجهة نظر سياسية بحتة.

إلى أن وصلنا إلى ”عيار ناري“.

”الحقيقة ليها وش واحد“ أو هكذا يقولون

”الأرض كروية، والشمس بتطلع من الشرق، والحقيقة بوش واحد“.

من المفترض أن هذه العبارة هي افتتاحية لمقال صحفي لواحدة من الشخصيات الرئيسية في ”عيار ناري“، بعيدًا عن كونها عبارة مباشرة يصعب أن تجذب قارئًا لاستكمال المقال، لكن مؤلف الفيلم هيثم دبور يكرر العبارة مرة أخرى قبل نهاية الفيلم كتأكيد على وضوح الحقيقة ووحدتها.

لو كان للحقيقة وجهًا واحدًا كما ترى الصحفية في الفيلم لتوقفت صناعة السينما، بعد بدايتها بفترة قصيرة، مع أول صدام بفيلم يحمل وجهة نظر مؤلفه ومخرجه التي تختلف ولو اختلاف طفيف عن الحقائق السائدة، ولو كان للحقيقة وجهًا واحدًا لاستكفى مشاهدو ”عيار ناري“ بمحاكمته سياسيًا، دون النظر إلى مستواه الفني، وهو ما لن يرضي صناعه بالتأكيد.

تدور أحداث الفيلم عن محاولات طبيب التشريح ياسين فك لغز مقتل الشاب علاء أبو اليزيد، الذي أثبت التشريح وفاته بعيار ناري من مسافة قريبة بينما تزعم أسرته أنه قتل أثناء إحدى المظاهرات في لاظوغلي برصاص قناصة الداخلية. لا يترك الفيلم مجالًا لخيال المشاهد بل يصل إلى نهاية واضحة فيها تشكيك لا يحتمل اللبس في شهداء الثورة.

نرشح لك.. طارق الشناوي يكتب: عيار ناري.. طائش!!

حتى تنجح في تقديم رأي جديد أو مغاير للحقائق، أو لما هو متعارف عليه، يجب أولًا أن تقدم فيلمًا جيدًا، يمكن أن يصمد أمام أي تقييم فني، حتى يمكنه الثبات أمام التقييم السياسي أو الأيدولوجي، أما إذا كان بناء الفيلم هشًا، فربما كانت مناقشته من وجهة نظر سياسية هي أقصى ما يطمح إليه صناع الفيلم للهرب من التحليل الفني.

فيلم ”عيار ناري“ ينتمي لنوعية الغموض (Mystery) والتي تحاول فيها الشخصية الرئيسية حل اللغز المحيط بجريمة ما، من الأسس التي يُبنى عليها هذا النوع من الأفلام، أن تتكشف الملامح المحيطة باللغز تدريجيًا وصولًا إلى النهاية، وهو ما لا يحدث في ”عيار ناري“ الذي يمتلك فيه الدكتور ياسين وسيلة حل اللغز منذ نصف الساعة الأولى لكنه لا يلجأ لاستخدامه إلا قبل النهاية بدون أي مقدمات.

لسنا بصدد التحليل الفني للفيلم هنا، ولكن كان يبغي الإشارة إلى أن الفيلم لا يستطيع الصمود داخل النوع الذي ينتمي إليه، وبالتالي من الصعب له أن يصمد في ذاكرة المشاهد ويغير في أفكاره.

الفيلم نفسه اهتم بتكثيف الفكرة التي يود أن يقولها على حساب صناعة دراما جيدة.

مع المنع / ضد المنع

يُطلق على الأفلام الروائية في الإنجليزية لفظ ”Ficiton“ في بعض الأحيان، وترجمتها الحرفية (خيالية). مُطالَبة السينما بنقل الواقع بحذافيره، هو أمر غير منصف وبلا معنى، فحتى السينما التسجيلية تختار زاوية واحدة من الأحداث.

لا تتوقف الآراء الرافضة لفيلم ما عند نقد الفيلم بشكل سلبي أو الهجوم عليه، بل يصل الأمر أحيانًا إلى حد المطالبة بوقف عرضه، وهذا الأمر لا يحدث في مصر فقط بل في الكثير من دول العالم، ومنذ بدايات السينما.

في عام 1915، مُنع عرض الفيلم الأمريكي ”The Birth of Nation“ (مولد أمة) في عدة ولايات لما رأوه فيه من عنصرية ضد الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية، الفيلم هو علامة في تاريخ السينما على عدة مستويات، ولنا أن نتخيل لو كان الأمر امتد لعدم عرض الفيلم من الأساس، لكنا فقدنا واحدة من أيقونات السينما.

لا يجب أن ننسى أن صناع السينما أنفسهم يغيرون وجهات نظرهم السياسية، يوسف شاهين كان داعمًا بقوة لنظام الرئيس عبد الناصر، فيلم ”الناصر صلاح الدين“ كان دعاية صريحة للرئيس الراحل وأفكاره، لكنه فيلم مميز واستثنائي في تاريخ السينما المصرية، وهكذا حتى وإن اختلفنا معه سياسيًا حاليًا لا يمكن المطالبة بحذفه من تاريخ السينما.

لكن شاهين نفسه سخط على النظام الناصري، كما فعل الكثير من المفكرين آنذاك، وعبر عن ذلك أيضًا في عدة أفلام، أحدها هو ”العصفور“ الذي ينتهي بالصرخة الشهيرة ”هنحارب“، وربما يعلم الكثيرون أن هذا الفيلم مُنع العرض حتى بعد الانتهاء منه بعامين، ليعرض عام 1974 بعد حرب أكتوبر.

بالتأكيد كانت هناك أصوات آنذاك تطالب بالإفراج عن الفيلم، كما لا نستبعد أن بعض الأصوات التي أيدت المخرج عندما قدم ”الناصر صلاح الدين“ هاجمته عندما قدم ”العصفور“، مرة أخرى للاختلاف السياسي وليس الفني.

هل يعني هذا أن العمل الفني يجب أن يُحلل بمعزل عن رؤيته السياسية؟

الإجابة بنعم تعني تجريد الفيلم من محتواه، ومعاملته كجماليات فقط بعيدًا، لكن معاملة الفيلم كوثيقة سياسية فقط في المقابل، ربما يحرم الجمهور أيضًا، من الإحاطة بتفاصيل أكبر عن العمل، الذي يبقى عملًا فنيًا في النهاية.

حتى فترة قريبة لا زالت الأصوات تطالب بعرض فيلم ”آخر أيام المدينة“ الذي لا يوجد أي سبب رسمي واضح لعدم عرضه، وكل من شاهد الفيلم أشاد بمستواه الفني، فماذا لو كن الفيلم ذو مستوى فني جيد، لكنه ليس على الهوى سياسيًا، هل كنا سنطالب باستمرار المنع آنذاك؟