أحمد فؤاد نجم.. قصائد "شاعر الشعب" خلف أسوار الزنازين

أحمد شعبان

عاش الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم 84 سنةً، قضى ما يقرب من ربع عمره في غياهب السجون والمعتقلات، تجرأ في قصائده، التي حملت هموم الفقراء وأحلامهم، على أصحاب السلطة، واعتاد طوال حياته على انتقاد رئيسٍ بعد آخر، رغم اختلاف توجهاتهم وسياساتهم، فاعتقله رئيسٌ بعد آخر، أرّق مضاجعهم بكلماته الحادة الجريئة، كرّس حياته لفضح ممارساتهم وفسادهم، لم يكن ممكنًا لرجل مثله، وهو “المعجون” بطين مصر والمتحدث بلسان حال أهلها وأوجاعهم، أن ينافق أصحاب السلطة، فعَبَرت قصائده العهود والمراحل، وشكّلت كلماته وجدان أجيال متعاقبة، وصار اسمه علامةً بارزةً في تاريخ الشِّعرِ والثورةِ والنِّضال.

في المعتقل ياسلام سلم
موت واتألم
لكن لمين راح تتظلم
والكل كلاب

كلاب حراسة وكلاب صيد
واقفين بالقيد
يكتفوا عنتر وابو زيد
ويهينوا دياب

بدأ “نجم” (1929-2013) كتابة الشعر في الخمسينات من القرن الماضي، سُجن تسع مرات، كتب أغلب قصائده ودواوينه في سجون الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات، وجهت إليه تهم عديدة من الاختلاس إلى التحريض على السلطات وغيرها، في عام 1959 وضع في السجن 33 شهرًا، شارك خلال هذه الفترة في مسابقة نظمها “المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب”، وفاز بجائزته، فصدر ديوانه العامي الأول “صور من الحياة والسجن”، في السنة الأخيرة لسجنه عام 1962، اشتهر وهو خلف القضبان بعد صدور ديوانه الذي كتبت مقدمته الناقدة الشهيرة سهير القلماوي، مبشرةً بـ”موهبة أصيلة تتنسم عبير الانطلاق نحو الآفاق لتحلق فيها”.

نرشح لكعلاقات غير نمطية لـ أحمد فؤاد نجم.. أبرزها مع الحرامية والسجانين

بعد خروج “الفاجومي” من السجن، التقى برفيق دربه الشيخ إمام عيسى، ليبدآ مسيرتهما ونضالهما الذي استمر حتى منتصف الثمانينات، لحنا وكتبا عشرات الأغنيات، تقاسما مطاردة السلطة، دخلا زنازينها أواخر عهد “ناصر”، حيث شهدت قصائد “نجم” بعد نكسة 1967 تحولًا من الرومانسية إلى النقد السياسي،
“الحمد لله خبطنا/تحت بطاطنا/ يامحلا رجعة ظباطنا من خط النار/ يا أهل مصر المحمية بالحرامية/ الفول كتير والطعمية/ والبر عمار/ والعيشة معدن واهي ماشية/ آخر أشيا/ مدام جنابه والحاشية/ بكروش وكتار/ ح تقول لي /سينا/.. وما /سيناشي/. / ما تدوشناشي / ما ستميت أتوبيس ماشي/ شاحنين أنفار/ إيه يعني شعب في ليل ذله/ ضايع كله/ دا كفاية بس أما تقوله/ إحنا الثوار!”.

كانت تلك الأغنية كفيلة بإدخالهما السجن، أمضيا ثلاث سنوات وراء القضبان، حتى خرجا بعد وفاة “ناصر”، ويروي محمد شعير في حوار له مع نجم أن: “عندما ألقى القبض على نجم – فى نهاية الستينيات- حقق معه حسن أبو باشا، فوجئ الفاجومي باتهامه بأنه كتب كل هذه القصائد التي تنتقد النظام وتسخر من عبد الناصر.. يقول نجم: ( كان أمامه كومة أوراق، مئات القصائد، والنكات وأنا متهم بتأليفها، ضحكت عندما أخبرني بذلك.. وقلت له كل دا أنا كتبته؟ دا أنا عبقري بقى”. وكانت المفاجأة اتهامه بأنه كاتب قصيدة ” يا عم اللي انت غصب عنا ريسنا”، وبمنتهى الثبات قال نجم للمحقق: “والله كويس أنا بأدور على القصيدة دي من أول مرة سمعتها فيها، شكرًا للداخلية!”.

نرشح لك10 أغاني غير سياسية لـ”شاعر البندقية” أحمد فؤاد نجم

في معتقل القناطر كتب “الفاجومي” أغنية “بهية” عام 1968، و”سلام للأرض” عام 1970، و”الخط دا خطي” و”قيدوا شمعة” عام 1971، وكتب “في المعتقل” في معتقل القلعة عام 1969، وخلال فترة تنقله بين المعتقلين كتب “شقع بقع” داعيًا الشعب للثورة على نظام عبد الناصر..”يا شعب ثور داهية تسمك.. وشيل أصول أسباب همك.. عصابة بتمص في دمك.. والاسم قال ضباط أحرار!.. أخدوا اليهود غزة وسينا.. وبكرة يبقوا وسطينا.. والراديوهات بتغدينا ..خطب ونتعشى أشعار”.

ورغم كل ذلك؛ حين رحل “ناصر”، رثاه “نجم” بعبارات رقيقة في قصيدته “زيارة إلى ضريح عبد الناصر” قال فيها: “أبوه صعيدى وفهم، قام طلّعه ضابط. ضبط عليَ قدّنا، وع المزاج ضابط.. فلاح قليل الحيا، إذا الكلاب عابت. ولا يطاطيش للعدا، مهما السهام صابت. عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت. وعاش ومات وسطنا، على طبعنا ثابت. وإن كان جرح قلبنا، كل الجراح طابت..”.

 

“الشاعر البذيء” هكذا وصفه السادات، بعد أن هاجمه نجم مرات عديدة وسماه في إحدى قصائده “شحاتة المعسل”، ليصبح “شاعر تكدير الأمن العام” بحسب تعبير صلاح عيسى، ودخل “الفاجومي” زنازين السلطة خلال الأعوام 1972، 1975، 1977، و1978، برفقة الشيخ إمام، وأزعجت أغنياته “ريسنا يا أنور”، و”الفول واللحمة” و”نيكسون بابا” رأس السلطة، وفي معتقل القلعة كتب قصيدته “صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر” عام 1973، و”شيد قصورك” عام 1973، والتي رددها الشباب الثائر في ميدان التحرير إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير، و”أنا رحت القلعة” و”بيانات على تذكرة مسجون” عام 1972.

 

عن موضوع الفول واللحمة صرح مصدر قال مسئول
إن الطب اتقدم جدا والدكتور محسن بيقول
إن الشعب المصري خصوصا من مصلحته يقرش فول
حيث الفول المصري عموما يجعل من بني آدم غول
تأكل فخده في ربع زكيبه والدكتور محسن مسئول
يديك طاقة وقوة عجيبة تسمن جدا تبقى مهول
ثم أضاف الدكتور محسن إن اللحمة دي سم أكيد

خلال انتفاضة الخبز 18و19 يناير 1977، كان “نجم” واحدًا ممن زُج بهم داخل السجون، وكتب “الرسالة رقم 1″ من معتقل طرة، ” كل ما تهِل البشاير، من يناير كُل عام، يدخل النور الزنازِن، يطرُد الخوف والضلام، يا نسيم السجن ميل ع العتب وارمي السلام، زهر النوار وعشش في الزنازين.. الحمام، من سكون السجن صوتي نبض قلبي من تابوتي، بيقولولك يا حبيبتي، كلمتي من بطن حوتي، سلمي لي عالحبايب، يا حبيبتي”.

في سجن الاستئناف عام 1973، كتب “نجم” قصيدة “القواد الفصيح” و”على الربابة”، وفي عام 1981 كتب: “النيل عطشان يا صبايا، يا شاهندة وخبرينا، يا أم الصوت الحزين، يا أم العيون جناين، يرمح فيها الهجين، ايش لون سجن القناطر، إيش لون السجانين، إيش لون الصحبة معاكي، نوار البساتين، كلك محابيس يا بلدنا، وهدومك زنازين، وغيطانك الوسايع، ضاقت ع الفلاحين”، وكانت هذه قصيدة “النيل” التي أهداها إلى “الرفيقات المعتقلات فى سجن القناطر”، حيث كتبها لرموز الحركة الطلابية النسائية اللاتي دخلن سجن القناصر ضمن اعتقالات سبتمبر 1981.

كما سخر من الانفتاح الذي بدأه السادات، حيث كتب “بوتيكات” وهو مسجون في سجن الاستئناف 1981، سخر فيها من ظاهرة انتشار الأعمال التجارية والسلع الجديدة التي تمثلها “البوتيكات” في ظل الانفتاح الذي بدأه السادات، وودّعه بقصيدة “البتاع”، ثم استقبل خلفه حسني مبارك بقصيدة “الشكارة”.

من “الجدع جدع والجبان جبان” إلى “الورد اللي فتّح في جناين مصر” إلى ” شيد قصورك ع المزارع، من كدنا وعمل إدينا، والخمارات جنب المصانع، والسجن مطرح الجنينه، واطلق كلابك في الشوارع، واقفل زنازينك علينا”، وجد ثوار 25 يناير في كلمات “الفاجومي” التي ألهبت مشاعرهم، خير تعبير عن مطالبهم وآمالهم، ففيها “قوة تسقط الأسوار” كما قال الشاعر الفرنسي لوي أراغون.