محمد صلاح البدري يكتب: عن منطق "القطة"!

لا أدري لماذا لم تمح من ذاكرتي تلك الواقعة أبداً.. ربما لأنها كانت أول صدمة نفسية أتلقاها وأنا أخطو ببطء خطواتي الأولي، لفهم طلاسم هذا العالم المرعب!

بعض الأحداث تحفر داخل روحك مكاناً لها لا يمكن إزالته أبداً..

القصة تبدأ من تلك “القطة” التي كانت تعيش بين منزلنا و “بير السلم “، لم أعرف أبداً إن كانت تخصنا في الأساس أم أنها “قطة” شريدة استوطنت منزلنا بعد عناء في طرقات المدينة القاسية، حتى أنها لم تحمل اسماً ندعوها به أبداً.. لقد كانت بالنسبة لي فقط “القطة”..

كانت علاقتنا قوية حقاً، فالأطفال يرتبطون نفسياً بالحيوانات أسهل وأقوى، بل و أكثر عمقاً بكثير من ارتباطهم بالبشر!

تعودت أن أطعمها يومياً من طعامي.. كنت أبحث عنها كلما نادتني أمي لتناول الطعام، بل وكنت أرفض أن أتناول شيئاً إلا بعد أن تأكل معي منه!

مازلت أذكر كيف كانت أمي تلقي إليه بالطعام بجواري حتى أقبل استكمال طعامي!

لقد كبرت القطة بمعدل أسرع مني بكثير.. كبرت وتزوجت في ظروف غامضة، فقد وجدتها فجأة أكثر سمنة دون سابق إنذار..

إنه التحول الذي تلاحظه على الفتيات عقب الزواج مباشرة، إنهن يصبحن أثقل في الحركة، و ربما ازداد وزنهم قليلاً، الصورة كلها فسرتها لي أمي – بعد أسئلة كثيرة عن مفهوم الزواج نفسه، وبعد فشلها في الإجابة عن كنه الزوج الغامض الذي أغلب الظن أنه أحد قطط الشارع الصغير الذي يطل عليه منزلنا -أنها ستنجب قططا صغيرة قريباً!!

كانت سعادتي غامرة حين أتى الضيوف الجدد، فإذا أردنا أن نحدد من الذي يستحق لقب “الأجمل” في هذا الكون، فلا أعتقد أن شيئاً ما سيتفوق على قطط صغيرة مغمضة العينين تموء في ضعف!

لقد شغلتني القطط الصغيرة عن العالم كله، كنت أجلس بجوارهم طوال النهار تقريباً، أقدم لهم اللبن وأحاول التربيت عليهم بحنان طفولي.. كنت أشعر أننا ننتمي لبعض أكثر من انتماؤنا لكل ما حولنا، فكلانا أطفال يحتاجون للرعاية طوال الوقت!

المشكلة أن الأمر لم يرق للأم المتمردة.. لقد كانت تمسك بهم بفمها وتخفيهم بعيداً عني في كل مرة تراني أجلس بجوارهم، الأمر لم يخل من صراع معلن بيننا أنتج جروحاً في يدي ووجهي منها غضباً واعتراضاً!!

حتى أتي ذلك اليوم الذي بحثت عنهم فلم أجدهم!!

لقد بكيت كثيراً وأنا أفتش عنهم في كل أركان المنزل، حتى سمعت أمي وهي تخبر أبي كيف أن القطة قد “أكلت” أولادها خوفاً عليهم مني!!

لم أستوعب في البداية كيف حدث ذلك، لقد كانت الفكرة نفسها صدمة قاسية لطفل يتحسس أيامه الأولى في عالم من البراءة المطلقة!

لقد قررت “القطة” أن تحمي أولادها مني ومن هذا العالم القاسي بأبشع وسيلة ممكنة، وهي أن تخلصهم منه تماماً!

ربما أدركت بعدها أن لفظ “أكلت” هو تعبير يعني أنها قتلتهم، ولكنها حقيقة لم تخفف من وقع الصدمة في نفسي أبداً..

فيما بعد سأكبر لأعرف أن زوجة “جوبلز” وزير إعلام النازية قد استخدمت منطق “القطة” ذاته حين قررت الإنتحار هي وزوجها عقب سقوط برلين، لقد دست السم لأولادها حتى تحميهم من العالم الذي سيعج بالسوفيت بعد رحيلهم!!

لقد قررت أن أبناؤها الستة لن يتمكنوا من الحياة حال سقوط النازي، فشدة إيمانها بالفكرة جعلتها لا تتخيل بقاء العالم كله بعدها..

لقد قتلتهم خوفاً عليهم من ذلك العالم الشرير الذي أسقط هتلر!!

بنفس المنطق عكف أهالي بيرو على قتل أبنائهم بأيديهم في أيام المجاعة التي اجتاحت البلاد في منتصف القرن السابع عشر، وقتل المصريون أبنائهم أيام الشدة المستنصرية، قبل أن يقتلهم الجوع!

وبمنطق مشابه تتمنى الزوجة المصرية الأصيلة أن يصاب زوجها -الذي تحبه- بالشلل، أو تقتله حافلة سياحية فاخرة وهو يعبر الطريق قبل أن يفكر -مجرد التفكير- في الزواج من أخرى!!

الأمر يتعلق دوماً بإيمان مطلق بأيدلوجية محددة ويقين بحقيقة واحدة لا تقبل أي حلول أخرى!!

إنه القتل حباً أو خوفاً، والرفض لأي محاولة للتأقلم أو حتى الإستسلام لقضاء الله!

ربما لا يخلو الأمر من لمحة إلحاد واضحة ورفض لواقع محتوم ينتظر في المستقبل، وربما استنكر البعض كل ما سبق واعتبر تلك النماذج مرضى يستحقون العلاج -وهم محقون إلى حد كبير- لكنه يظل منطقاً يمتلك شعبية لا يمكن إنكارها بين العقلاء أيضاً، منطقاً كانت ملهمته بالنسبة لي “قطة”!!