أشرف عبد الشافي يكتب: أسرار سيد حجاب

نقلًا عن “الدستور”

كان يحلم بكتابة قصيدة بماء الذهب على قبر صلاح جاهين.. وانضم إلى الجناح العسكرى لحركة فتح بعد هزيمة يونيو

الأستاذ أرنب والفيل أبوزلومة

اندهش سيد حجاب عندما قابلته أول مرة فى صيف عام 2007، أسرعتُ نحوه وقبضتُ على يده وقبلتها فى حركة بدتْ له رياءً ونفاقًا غير مبرر!، وطوال السهرة التى قضيتها معه فى دار ميريت لصاحبها ونوّارة وسط القاهرة محمد هاشم، ظل متوجسًا مرتابًا من هذا الشاب الثلاثينى الذى كنته آنذاك بالطبع وفى خنوعه الزائد والموقف المحرج الذى وضعه فيه!.

لم يكن يعرف مدى تأثيره فى حياتى، لم يكن يعرف حجم اسمه فى بيتى وقت أن انتشرت أغانى الفيديو كليب منتصف التسعينيات، ساعتها كنتُ واحدًا من الآباء الصغار الذين يتخبطون فى الطريقة المناسبة لتربية أبنائهم، وكان الله سبحانه وتعالى قد رزقنى طفلتين متتاليتين «ضحى وشيرى» ومثل كل الآباء الصغار وجدتهما ما بين الرابعة والخامسة من عمرهما وحولهما ضجيج من كليبات وتأوهات، وفى عقلى ووجدانى قلق ورعب عليهما من هذا الضجيج والابتذال، كيف لى أن أتركهما هكذا وأنا الذى أحلم بتنشئة وأخلاق وسلوكيات وتربية وتعليم وتثقيف وفن وموسيقى ورقص وحاجات من دى؟، عيب طبعًا، وكانت تجربة عمّنا الكبير «سيد حجاب» مع الرائع عمار الشريعى والفنانة «عفاف راضى» تسيطر على وجدانى منذ سنوات الصبا، وراحت ترن فى أذنى كلمات: «هم النم يا روحى ياللا جايبالك مم»، وتخيلت السعادة على وجه طفلتىّ، وراحت الكلمات والصور تتوالى فى أذنى وأمام عينى عن الفيل أبوزلومة الذى يتحدث عن الأكل والبرسيم وكيف أصبح «كبير ومتين ويلعب تمارين»، والست الزرافة بعيونها الحلوين وهى تكشف سر جمالها وخفة دمها فى أكل الخضار اللى بيخلينا كبار.

وذهبت إلى صوت القاهرة كما نصحنى الأصدقاء فى رحلة البحث المضنية آنذاك فلم يكن هناك اختراع «الساوند كلاود ولا اليوتيوب..» ولا أى أفكار عظيمة توفر الجهد، وعثرتُ على مجموعة الأغانى وعدتُ إلى البيت سعيدًا لأعيش طفولتى مجددًا مع صوت عفاف وكلمات حجاب وموسيقى عمار وضحى وشيرى، فلم يكن مكتوبًا لطفولتنا البائسة أن تعيش وتستمتع بهذا الجمال، لكن تليفزيون (القناة الأولى والثانية) مطلع الثمانينيات كان يذيع مجموعة كبيرة من هذه الأغانى فتعلق قلبى بها وأصبحتْ مصدر بهجة ومنقذى فى تربية أطفالى على غناء جميل.

ليه يا زمان ما سبتناش أبريا

لم يكن جيلنا محظوظًا فى طفولته وعرفنا طعم كلمات سيد حجاب على لسان عفاف راضى فى صبانا، لكننا كنا الأوفر حظًا فى الاستمتاع بتجربة سيد حجاب مع إسماعيل عبدالحافظ فى العمل الخالد «ليالى الحلمية» وعرفنا منين بييجى الشجن.. ومنين بييجى الرضا، وعرفنا إن انكسار الروح فى دوح الوطن هو السبب فى احتضار الشوق فى سجن البدن، وصرخنا بشجن وألم: «ليه يا زمان ما سبتناش أبريا وواخدنا ليه فى طريق ما منوش رجوع..»، وتوسلنا إلى الزمن كى لا ينهش أيامنا ويغتال براءتنا: «ما تسرسبيش يا سنينّا من بين إيدينا، ولا تنتهيش ده إحنا يا دوب ابتدينا». كان الملحن «ميشيل المصرى» الذى حقق نجومية بتلحين تتر ونهاية «ليالى الحلمية» لا يقل جمالًا عن الرائع المبدع عمار الشريعى فى مسلسل «أرابيسك» وكان سيد حجاب قد وصل إلى قمة الإبداع، وهو يضيف إلى الأغنية العربية صورة شعرية نادرة واستثنائية فى وصف الشعور بالندم والحسرة على الأيام التى ضاعت والأحلام التى شاخت «وينفِلِت من بين إيدينا الزمان.. كإنه سَحبة قوس فى أوتار كمان».

بحبك يا بنت الذين

مصر تسكن الروح، وهذا عادى للغاية بالنسبة لى ولك، أما بالنسبة للشاعر سيد حجاب فلا تستريح مصر فى مكانها من القلب، ينقلها سيد حجاب هنا قليلًا ثم يحملها هناك، هو ابنها.. وهى طفلته، هو فارسها وهى مهرته، هو يتيم وهى الأم الرؤوم، هو مغترب.. وحيد.. مشرد، وهى الحضن الدافئ كلاهما يبكى الآخر: شاعر يهدهد وطنًا، ووطن يهرب ويساوم نصابين وحرامية ويفتح ذراعيه للقطاء و«بتوع حلق حوش»، وطن قاس أحيانًا ومتسع أحيانًا أخرى.. يبتعدان ثم يرتمى كلاهما فى حضن الآخر فتفيض الدنيا عذوبة وشجنًا: «بحبك يا بنت الذين» كما لخصه فى قصيدته الشهيرة «هنا القاهرة». وكثيرًا ما يتخبط الشاعر الفنان تائهًا فى دروب مصر، يبحث عنها ويبكى ويعاتبها فى قصيدة أو أغنية رائعة اكتسبت حزنها وشجنها بصوت محمد منير ولحن هانى شنودة: «إيه يا بلاد يا غريبة.. عدوة ولا حبيبة؟ فى الليل تصحى عيونِك.. ونجومِك مش قريبة».

نعم يا عم «سيد» إنها القاهرة التى نعشقها، وتعشق غيرنا، وتقع فى غرام الأفاعى، فننتظرها على أبواب المقاهى ونواصى الأزقة القديمة: «هنا القاهرة الساحرة الآسِرة الهادرة الساهرة الساترة السافرة»، وهذا ابنها سيد حجاب الذى صنع قصيدة جديدة فى مفرداتها وصورها، قصيدة تدعوك للتفكير وتقترب من الحكمة: «ولما تتلاقى الوشوش مرتين.. مبيتلاقوش يوم اللقا التانى.. عمر الوشوش ما بتبقى بعد السنين نفس الوشوش دى بتبقى شىء تانى.. بتبدل الأيام ملامحنا ترعشنا..تنعشنا.. تشوشنا… يا ترى اللى بيعيش الزمن إحنا ولا الزمن هوا اللى بيعيشنا..».

يجعلك تكتب الفصحى البليغة حتى وأنت تقرأ مفرداته التى تشبه اللولى والترتر فى تزيين وتجميل القصيدة، فمهما امتلأت القاهرة بالشوشرة والسمسرة وبياعين التلات ورقات، فنحن لا نتوقف عن حبها «بنت الذين»، ويهون العالم كله إذا ضحكت بنت الذين، وإذا واعدتنا ومنحتنا حبها وسط الزحام:

 

«حبيبتى من ضفايرها طل القمر

وبين شفايفها ندى الورد بات

ضحكتها بتهز الشجر والحجر

وحنانها بيصحى الحياة فى النبات».

يوم استشهاد جيفارا.. وأسرار أخرى

عدد قليل جدًا من أصدقاء ومحبى سيد حجاب يعرفون أنه ليس فقط مؤلف أغانى مسلسل «الأيام» عن قصة «طه حسين»، لكنه أيضًا أضاف سبع حلقات إلى السيناريو وحذف أضعافها ووضع اللمسات النهائية على النص الذى تسلمه من المخرج «يحيى العلمى» وكان عليه أسماء «أمينة الصاوى، أنور أحمد، ويوسف جوهر»، وظل سيد حجاب يخفى هذا السر تواضعًا وترفعًا، فقد فعل كل ذلك إجلالًا للأستاذ طه حسين الذى يعتبرة منارة مصرية تستحق أن نجتهد لتخليدها، فعندما تسلم السيناريو اعتذر عن كتابة الأغانى، فطلب منه يحيى العلمى التعديل كما يشاء، فأضاف حلقات كاملة ومشاهد أساسية فى حياة طه حسين لم تكن مذكورة فى السيناريو.

وقليلون جدًا يعرفون أن شاعرنا الكبير سيد حجاب كان يكتب فى صباه مقالات فى مجلة «سمير» ويوقعها باسم «مازن أبوغزالة»، وكان «مازن» هذا صديقًا لحجاب ومجموعة من المثقفين الشباب الذين شعروا بعد نكسة 67 بأن الأدب مجرد «عبث» لا يحمى الأوطان، وفكروا فى حمل السلاح للثأر وقتال الصهاينة، وفى ذلك الوقت ولدت حركة «فتح»، وبحث الأصدقاء عن طريقة للالتحاق بها، وفشلوا لكنهم نجحوا فى إرسال «مازن» إلى معسكرات التدريب التى كانت الجناح العسكرى لفتح آنذاك وحمل اسم «سيد حجاب» اسمًا حركيًا له، وتأتى الدراما عندما يسقط «مازن» شهيدًا فى معركة «طوباس» وفى يوم استشهاد جيفارا.

وكثيرون يعرفون أن أغنية «الحدود» التى قدمتها فرقة الأصدقاء من تأليف سيد حجاب، لكن الحقيقة غير ذلك، فقد كنّا فى إحدى السهرات وطلب أحد الحضور قصيدة «ع الحدود»، فاعتذر سيد حجاب بأدب رفيع، مؤكدًا أنها كلمات الشاعر «عمر بطيشة»، ويومها حمدت الله لأننى أيضًا كنت أظنها من كلماته.

سامحنى يا صاحبى الجميل

منذ عامين تقريبًا كنّا نحتفل بصدور كتاب «حاجات صغيرة قوى» لصديقنا الجميل «عصام اللباد» الطبيب النفسى الذى يعيش ويعمل فى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان من المفترض أن أقدم قراءة للكتاب فى حفل التوقيع؛ لكننى ولحسن الحظ تعثرت فى الزحام ووصلت متأخرًا وفوجئت بعم «سيد حجاب» موجودًا فى دار ميريت ومن المقربين جدًا إلى عصام اللباد، وقبل أن أعتذر، وضع يده على كتفى: «هتقول الكلمتين برضه»، انتقلنا إلى الاحتفال فى أحد مطاعم وسط القاهرة وقلتُ الكلمتين فى خجل لم أتخلص منه إلا عندما لاحظت الاهتمام من ابتسامات سيد حجاب وهزات رأسه، وبعدها تجلى هو وراح يلقى مجموعة كبيرة من أشعاره واختتمها بقصيدته إلى صلاح جاهين «عشر كلمات عند افتراق الطريق وكان يعرف حبى لها وإعجابى بها، فلم يحدث أن التقينا مرة دونما أن أشير إلى تلك القصيدة: «سامحنى.. يا صاحبى الجميل.. وإحنا هناك.. على بوابات الرحيل.. سبتك.. وسبت البوابات تاخدك.. ورجعت عاجز كليل.. سامحنى.. مهما قلت قولى قليل.. لا هو أد حبى لك ولا أدك.. وأى قول بعدك قليل وهزيل».

ولم يجد سيد حجاب؛ ما يمنعه من الاعتراف لى بأنه تمنى أن يكتب شطرًا من هذه القصيدة بماء الذهب على قبر صلاح جاهين، أما الشطر فهو «وأى قول بعدك قليل وهزيل»، وكان جاهين صاحب فضل، وكان سيد حجاب فخورًا وهو يردد دائمًا: «صلاح جاهين هو يوحنا المعمدان بالنسبة لى، هو البشارة والصوت الصارخ فى البرية الذى يبشر بالقادم وبالقادمين من بعده فى طريق شعر العامية».

وسامحنا يا شاعرنا الكبير وإحنا بنودعك من غير كلام على قدك، مع السلامة يا عم سيد، وإلى لقاء يجمعنا.