عمرو شوقي يكتب: مذكرات صحفي ممسوح بيه بلاط صاحبة الجلالة (2)

يسألونك عن الصحافة.. قل الشِمال يِكسب

– وإن شاء الله المرتب هيبقى كام؟

رد علي مدير التحرير:

– تلاتة.

تهلل وجهي:

– 3 تلاف؟

– لأ.

قلت بابتسامة حذرة:

– مهه أكيد مش 3 جنيه!

– وكمان أكيد من 3 مليون جنيه.. يبقى 300 جنيه.

– نعمممممم؟

– إيه مش عاجبك؟

– حضرتك المرتب ده كان ينفع في التسعينات. أيام ما كانوا بيروحوا الدروس بأكلاسير، ولما كان راغب علامة كل ما يشتاق إليها بيروح ويسأل عليها!

انفعل بشدة:

– نعم يا حبيبي! إنت هتهزر؟

نسيت نفسي واندفعت:

– أنا برضه اللي بهزر؟

– والله هو ده اللي عندنا. عاجبك عاجبك. مش عاجبك خلاص.

لكنه تراجع وهدّأ من نبرة صوته لسبب غير مفهوم. ربما لم يرغب في أن تضيع من يده “ضحية” رأى أنها قد تكون قابلة للاستعباد والاستكراد:

– افهم. إحنا هنعينك وهندخلك نقابة. غيرنا هيديك ألفين تلاتة ومش هيعينك.. ولاد نصابة! لو تحب تروحلهم وشايف إن مستقبلك معاهم إنت حر. وعلى العموم لو هتكمل معانا المرتب ده هيزيد بعد كام شهر.

**

هكذا حال الصحفيين على أرض الكنانة، يخيرونك بين الذل والمهانة. مرتب بلا تعيين، أو “وعد” بالتعيين بلا مرتب! من الآخر.. حاضر بلا مستقبل، أو مستقبل “مزعوم” بلا حاضر. وبين النار والنار، عليك أن تختار.

حينما بدأت العمل وجدت زميلة ثلاثينية جذابة، قالوا لي إنها رئيسة قسم الإسلام السياسي وتتقاضى 6 آلاف جنيه! تابعتها فإذا بها لا تفعل أي شيء سوى إرسال أخبار محرري القسم بعد إضافة اسمها بجوار اسم المحرر، بل قبل اسم المحرر!

سألت زميلا:

– إيه مؤهلاتها دي عشان تقبض 6 آلاف وإحنا ناخد خمسميات؟

فرد ضاحكًا مكركرًا:

– بذمتك مش شايف مؤهلاتها؟

كانت جميلة حقًا، وإن كان تحررها المبالغ فيه يسحب من رصيد رقتها، والجمال الخالي من الرقة لا يروق لي.

عرفت بعد ذلك أنها “شِمال” على حد وصف ذلك الزميل! بل تمارس ذلك “الشمال” مع رئيس التحرير التنفيذي شخصيًا، ومقابل ذلك أصبحَت رئيس قسم، وتقاضت الـ6 آلاف، ووقّعت عقود التعيين، ودخلت النقابة، بينما المحررين الشقيانين منذ سنوات لا زالوا يرددون مع أحمد شيبة: “آه لو لِعِبْت يا زهر.. واتبدلت الأحوال”!

مرت 6 أشهر بلا زيادة ولا تعيين ولا نقابة، ثم مرت مثلها مع مطالبات بلا استجابة. إذًا هي عصابة، تسرق أشياءك المادية والمعنوية. مجهودك. أجرك. فكرك. وقتك.

قررت أن أتجه رأسًا إلى رئيس التحرير:

– مدير التحرير وعدني من سنة بزيادة، ومحصلش.

قال وهو ينظر في أوراقٍ أمامه:

– قال لك هتزيد كمان أد إيه؟

– 6 شهور.

ظل ينظر في أوراقٍ أمامه:

– بس مفيش زيادات دلوقتي. الميزانية لا تحتمل.

تمنيت لو تناولت حبوب الشجاعة وسألته “واشمعنى الميزانية بتحتمل الـ25 ألف جنيه اللي بتاخدها؟”، لكني حكيت له عن موقف الصحفي العظيم المظلوم أمين الرافعي، حين كان يرأس تحرير جريدة “الأخبار” في عشرينيات القرن الماضي، وتعثرت الجريدة ماليًا، فامتنع عن تناول المرتب الضئيل الذي حدده لنفسه، مؤثرًا غيره من صغار الصحفيين على نفسه.

نظر إليّ أخيرًا لكن بهدوء بارد مصطنع:

– وأنا يا سيدي مش عبد الرحمن الرافعي بتاعك ده.

فوجئت بأنه لا يعرف الفرق بين الاثنين:

– أمين.. اسمه أمين، عبد الرحمن ده أخوه المؤرخ!

تخلى عن بروده، وصرخ:

– إنت هتتنطط عليا؟ إيه رأيك بقى مفيش زيادات ليك إنت بالذات لسنة قدام.

خرجت من غرفته. غبت 5 دقائق، ثم عدت إلى اللافتة المعلقة على باب الغرفة والمكتوب عليها “رئيس التحرير”، فلصقت ورقة كتبت عليها “الاستعباد” مكان كلمة “التحرير”! ومضيت، عاقدًا العزم على عدم العودة.

يومٌ فالثاني، وجدت اتصالًا من رئيس القسم يُطيب خاطري ويعدني بالزيادة إياها، ويضحك قائلًا:

– الحمد لله شيلنا الورقة اللي إنت لزقتها قبل ما يشوفها. بس حلوة “رئيس الاستعباد” دي..

**

يبدو أنه ما زال في دمائي بقية لتُمَص! عدت وأنا أقنع نفسي بأن ذلك أفضل من بدء دور الضحية من جديد في مكان جديد. رفض الثور أن ينزع “غماه” ويرفض يلف، قال لنفسه “بس خطوة كمان وخطوة كمان.. يا أوصل نهاية السكة يا البير يجف”! لكن ذلك كان مجرد تأجيل للموعد الذي فيه سيكسر تروس الساقية.. ويشتم.. يتف.

عدت. دخلت. ناداني المحاسب. قال لي:

– زودناك إنت بس. زودناك 200 جنيه. هتقبض الشهر الجاي 500.. المهم إياك تقول لحد من زمايلك. ماشي؟

– ممماشي!

– لو حد سألك.. إنت بتقبض 300. تمام؟

– تمام قولتلك. ماتقلقش خالص.

خرجت إلى الصالة التحريرية، وبعلو صوتي:

– مش تباركولي يا جدعان.. زودوني 200 جنيه.. هقبض 500.

لم تمر 5 دقائق حتى كانوا جميعًا في مكتب المحاسب.

أيام قليلة وزاد مرتب جميعهم.

شهور وعُيِّنوا.. ولم أُعيَّن مثلهم!

للتواصل مع الكاتب عبر “فيسبوك”

للتواصل مع الكاتب عبر “تويتر”

اقرأ أيضًا:

عمرو شوقي يكتب : مذكرات صحفي ممسوح بيه بلاط صاحبة الجلالة (1)

عمرو شوقي يكتب: مؤامرة CNN لهدم «نظريةالمؤامرة»

عمرو شوقى يكتب: هل يكره الزملكاوية حسن شحاتة؟

عمرو شوقي يكتب: هل حصل “عفيفي” على مكافأة الدوري؟!

عمرو شوقي يكتب: أغنية “التالتة يمين” التي أزعجت نادي القرن

عمرو شوقي يكتب: انبهرت بإعلانات رمضان.. والنتيجة؟؟

.

تابعونا علي تويتر من هنا

تابعونا علي الفيس بوك من هنا