محمد فوزي سعيد يكتب : عندما رن الموبايل في جنازة أمي
فقدت أمي التي أعشقها وكنت في طريقي إلى المقابر والهاتف الجوال ( الموبايل ) الآثم لا يريد أن يصمت أبدا … تبا لذلك الاختراع اللعين الذي أفسد العلاقات الانسانية ..
هل يجب أن أترك جثمان أمي وأتلقى التعازي ثم أعود وأحمله إلى مثواه الأخير … وبعد أن يتم دفن الجثمان يجب أن أتحول ( لماذر بورد وهارد وبروسيسور ورامات .. وأتحدث في الهاتف لتلقي التعازي ) وأتغاضى عن مشاعر الحزن التي تسودني ولا يخرج بسببها صوتي !!
تطور التكنولوجيا وتأثيره على حياتنا الإنسانية والشخصية والفن يشغلني كثيرا وأفكر فيه منذ زمن طويل ( وبرغم أن التكنولوجيا مفيدة إلا أننا نبدع في استخدامها الخاطئ )
أعتبر نفسي من جيل ذهبي استطاع اللحاق بالحياة الجميلة وزمن الخير والهدوء والود والترابط والأخلاق والقيم والمبادئ … زمن الثمانينات الجميل والتسعينيات وبداية الألفية الثانية اللعينة
كنا في الأفراح نجتمع ونتلاقى ونجلس معا وفي الأحزان تتجمع العائلات والأهالي والأصدقاء يشاطرون بعضهم البعض الأحزان قبل أن تنغص التكنولوجيا علينا حياتنا
الحب كان امتداد لزمان عبد الحليم حافظ نكتب الرسائل الغرامية ونستمع إلى الراديو والكاسيت ونشاهد الأفلام الرومانسية عن طريق الفيديو ونذهب تحت ( بلكونة ) الحبيبة لنراها … ونشاهد فيلم آيس كريم في جليم وبطله البسيط وننبهر بالتفاصيل برغم بساطتها…
نستمع لراغب علامة الذي يشتاق الى حبيبته فيذهب للسؤال عليها ويشاهدها بنفسه … ( هو ده الحب اللي نعرفه فيه صدق ومحاولات لرؤية الحبيبة فقط )
كان الفن يعبر عن حياتنا بصدق يعبر عن الأخلاق الفاضلة والود والحب والترابط والحياة البسيطة الدافئة
ومع إنتشار الهاتف الأرضي في التسعينيات تبدلت الأوضاع فأصبح التواصل الاجتماعي عن طريقه فتقطعت العلاقات إلى حد ما وبدأت في الانحسار
جسد وحيد حامد دور الهاتف الأرضي بالمجتمع في فيلم عادل إمام اللعب مع الكبار و ملاحقة الفساد عن طريق التجسس على الهواتف الأرضية واذا أراد الضابط التحدث مع البطل يتصل بالمقهي المجاور لمنزله ( فعلا كنا نتصل بأصدقائنا عند الجيران دون إحراج نظرا لارتفاع تكلفة توصيل الهاتف والدخول في قائمة الإنتظار)
أما الهاتف الجوال ومع بداية ظهوره وإرتفاع ثمنه كان دوره محدودا في المجتمع إلا أنه أحدث طفرة في تدمير العلاقات … فأصبح المسد كول تذكير بالتواجد ، والرسالة القصيرة تعبير عن المشاعر ، وبعد أن كنا نبذل المجهود للوصول إلى الحبيبة أصبحنا نبحث عن رقم الموبايل !!
أثر الموبايل على الفن فمثلا بنى خالد سليم أغنية ( بلاش الملامة ) على رنة موبايل 3310 الثمين الذي كان يحلم كل شاب في بداية الألفية الثانية أن يمتلكه
وفي فيلم السلم والثعبان نرى مشهد غرامي لهاني سلامة وهو يقف تحت بلكونة حلا شيحة ويتحدثا في الموبايل ( ليستمر الفن متأثرا بفكرة البلكونة مع دخول الحداثة بالموبايل ) وحتى هذه اللحظة كان الأمر جيدا
انتشرت التكنولوجيا والحواسب الشخصية والهواتف الذكية والإنترنت أكثر وقلبت الأوضاع رأسا على عقب وتلخصت حياتنا في أيقونة قلب للحب وفم باسم للضحك وعيون تبكي للحزن … تحول الوضع لحالة على الفيس بوك يشعر بالحب أو بالإحباط أو بالفشل وتاج وشير ومعجب … أصبح الحب كلمة على ( الواتس آب ) وأصبحنا نتلاقى في (الفيديو كول ) واستخدمنا التكنولوجيا في تدمير العلاقات الانسانية والحب والأخلاق وأصبحت الحياة سريعة أكثر وشعر الناس بالملل وبحثوا عن التجديد والتغيير المستمر
وبعد أن كان التجديد في الموسيقى يمر برزانة منذ أن طورها حميد الشاعري إلا أن توافر برامج المونتاج والمكساج والتسجيل الصوتي على الحواسب التي إنخفض ثمنها وإمتلكها الجميع دفعت لتدمير الأغنية المصرية الشعبية بدعوى التجديد لتصبح الموسيقى أشبه بحرب كارثية غير مفهومة تحت مسمى ( مهرجانات ) وأصبحت كلمات الأغاني الفجة المباشرة تغزو حياتنا بدعوى التجديد …
أصبحت الأفلام كولاج مكون من عدة إسكتشات يعجب بها البعض فنجحت الأفلام المسفة وأصبح لها جمهور من المريدين
أصبح 20 مشهد في السيناريو يقوم بها البطل للوصول لحبيبته للتعبير لها عن مشاعره في الزمن البائد تختصر في 20 ثانية ( عالواتس آب ) فتنتهي المشاعر عندها …
إختزال المشاعر والعلاقات الإنسانية مع استمرار تطور التكنولوجيا أصبح مرعبا … وأتوقع قريبا أن نسأل أحد الأصدقاء عن حالته الاجتماعية فيقول ( مرتبط إلكترونيا ً !!!! والفرح قريبا عن طريق الفيديو كونفرنس !!! )