البراء أشرف يكتب: بيان ختامي

تكريماً وتقديراً للكاتب والمدون الراحل البراء أشرف، يعيد إعلام.أورج كل جمعة نشر أحد مقالاته حتى نهاية عام 2015

الآن، والآن فقط، توصلت لاختياري الأخير..

فبعد دراستي للقائمة الطويلة التي أعطاها لي أحدهم عند بداية الطريق، مكتوب أعلاها “اختار طريقة موتك بنفسك”، في حين تراصت أشكال وأصناف الموت من السطر الأول حتى الأخير، مع تدخل بسيط بخط اليد يعلن عن عدم توافر أشكال معينة من الموت.. حيث نفذت بعض الأصناف، كما أن أصناف أخرى يلزمها وقت تطويل لتصبح جاهزة.. والإدارة ترفض انتظار الزبائن كل هذا الوقت.. فالزبون المنتظر.. قنبلة موقوتة.. دائماً على حق!

أخذت القائمة وجلست على جانب الطريق، بعد خطوات بسيطة مشيتها من البوابة، حيث أعطاني أحدهم القائمة إياها..

بحثت عن أي ركن مظلل للجلوس، لكن أنفي لاحظ رائحة رطوبة قوية، ربما مصدرها تلك الشجرة، فضلت الحرارة عن الرطوبة، وجلست بعيداً عن الشجرة، ونظرت بلامبالاة.. إلى القائمة.

“أنت تختار”.. ياله من شعار، الآن، وقبل بداية السير، علي أن اختار الشكل الذي أرغب في ان تنتهي به رحلتي..

سأختار بالتأكيد.. أفكر في اختيار أي رقم، بدون تفكير، رمية زهر، على أن اجتهد في سيري بعد ذلك لتعديل اختياري، لكني لا أفضل المراهنة على موتي، فأمثالي يبحثون عن ميتة كريمة، يعوضون بها ما فقدوه من كرم في حياتهم.

تتداخل الأشكال والأصناف أمام عيني، أشعر أنها أكثر مما ينبغي، فأقرر التفكير بشكل عكسي، سأستبعد الأصناف التي لا أرغب فيها حالياً، مع العلم أن ما لا أرغب فيه الآن، لن أرغب فيه مجدداً.

إذن، أنا لا أريد أن أموت مقتولاً، أفضل أن أصطحب جسدي كله معي إلى الحياة الأخرى، لا أريد أن أشغل بالي وأضيع وقتي بالبحث عن أصبع مفقود أو عضو مبتور، أو عين سقطت بفعل رصاصة خرجت من بندقية قناص قرر الرد على موبايله وهو يصوب تجاهي من أعلى المبني، فانحرفت الرصاصة لتصيب عيني بدلاً من قلبي، وهي في الحالتين.. مميتة..

لكني لا أفضل ذلك، إذا كنت عشت عمري أحاول الاهتمام بجسدي كلما أمكن، فإني لن أسمح بإهانته الآن، ثم.. ما هو المقابل..

أن تموت مقتولاً، بفعل فاعل، فهذا يعني أنك فعلت شيئاً يستحق، أنك اتخذت قراراً مهماً، أو فعلت شيئاً خطيراً، وهي أشياء، لم أفعلها في حياتي بعد.. ولن أفعلها.

فليستمتع المقتولون بموتهم، هم السابقون، وليلحق بهم غيري، سأبحث عن ميتة أخرى.

إذن، لا أريد أيضاً أن أموت على فراشي، هو موت بلا ثمن، كما أن مقدماته تجعله بطيئاً.. كما أني في الحقيقة.. أكره أن يراقبني أحدهم بينما ألفظ أنفاسي الأخيرة، محاولاً تلقيني الشهادة بطريقة لا تؤذني.. متناسياً أن ما من شيء يؤذي الميت لحظة موته.. لا شيء مؤذي أكثر من الموت..

أنا أكره الذين يراقبوني وأنا لا زلت على قيد الحياة، في البيت، في الشارع، في عربات المترو، في الكنبة الخلفية داخل الميكروباص، في المقهى، كل هؤلاء لا أحبهم.. لكني أعبر عن كرهي لهم بالطريقة التي يستحقونها.. أراقبهم..

نعود للقائمة.. وقد استثنيت الآن شكلين من أشكال الموت.. القتل السريع.. والفراش البطيء.. ما رأيي إذن في الموت أثناء العمل؟؟.. أجلس على مكتبي.. أنهمك في العمل.. وأتوقف فجأة.. بلا حراك.. قد يستمر الأمر دقيقة أو اثنتين.. لكن كل شيء ينتهي بسرعة..

أوووف، أراهم الآن، زملائي، يلتفون بسرعة من حولي، يحاولون أن يفعلوا شيئاً ما، هم في الحقيقة يحاولون أن يبدون وكأنهم يحاولون، لأنهم ببساطة، ينشغلون أكثر بالفرجة، أرحل، ويأتي أحدهم بجريدة قومية كبيرة، ويغطي جسدي متمتماً بجمل نصف مفهومة “لا إله إلا الله”.. “سبحانه”.. “اتعظوا”.. “هادم اللذات”.. ليتحول موتي إلى درس وعبرة وعظة وقصة يلقيها أحدهم في ليلة حزينة بين أصحابه.. شكراً، لا تناسبني هذه الطريقة..

ليس أفضل إذن من الموت أثناء عرض فيلم أجنبي شاهدته من قبل عشر مرات، وبينما أتناول الفيشار أو السوداني، في ليلة باردة، أمدد ظهري على الكنبة، وأمد قدمي على المنضدة القماشية، تنحشر الحبة في حلقي، وأرحل سريعاً قبل أن يتمكن أحد سكان المنزل من اسعافي..

لكن زوجتي ستبكي كثيراً، ليس لأنها تحبني أكثر مما أتوقع، فقط لأن رحيل أحدهم (أياً كان) بهذه الطريقة، سيجبر الجميع على البكاء.. وأنا.. لا أحب البكاء بكل تفاصيله.. خاصة لو كان هذا الذي يبكي.. شخص آخر غيري.

ثم أني لا أفضل الموت التليفزيوني بكل أشكاله، بحيث لا يستغل موتي في النهاية كفقرة إعلانية لقناة ما، أياً كانت، دينية أو إباحية، لا فارق هنا بين “الناس”.. و”سبيس تون”.

قاربت القائمة على الانتهاء، اسبتعدت بضعة أشكال دون تفكير، لعلهم وضعوا اختيارات مثل “النحر على يد تنظيم القاعدة”، و”الانتحار بالكهرباء”، و”الغرق متعمداً” لمجرد صناعة قائمة مزدحمة.. لكن في الحقيقة.. لا أحد يفضل مثل هذه الطرق.

توقفت قليلاً عند “الإعدام”، وسرت في جسدي رعشة ملائمة، لا اسوأ من أن تترك الدنيا كدجاجة فاسدة غير صالحة للاستخدام الآدمي، لا اسوأ من انتظارك بعض الوقت حتى ينطق القاضي بالحكم، وانتظارك وقت آخر حتى يقرر موعد التنفيذ، ثم اجبارك على ارتداء الكيس القماشي الأسود، وملئ اذنك بحيثيات الحكم، وكأن من المهم عندهم أن تعرف.. لماذا أعدموك.

لا اسوأ من أن يحرمك أحدهم من متعة النظر إلى المكان الذي تريده وقتما يحين وقت الرحيل.. أنا شخصياً سأنظر إلى أعلى.. إلى السماء.. إلى سقف حجرتي.. إلى سطح عربة المترو.. إلى أي مكان عالي.. فعند الموت.. تصبح الأشياء من حولك ليست ذات أهمية.. وينحصر تفكيرك في.. الخطوة التالية.

سأختار إذن.. لكن طريقتي التي أرغبها ليست مذكورة.. سأكتب في خانة “أخرى تذكر”.. سأقول “حين تحين الساعة.. فأفضل أن يأتيني أحدهم بملامح هادئة، وابتسامة جميلة، ليعطيني ورقتي.. ويمهلني دقيقة أحضر فيها شنطتي.. وحين اسأله (وكأني لا أعلم) عن وجهتنا.. يقول هو بهدوء : خمس دقائق.. ثم تعود”..

نقلاً عن مدونة “وأنا مالي”

اقـرأ أيـضًا:

البراء أشرف يكتب: مطاوع يتحدث عن نفسه

البراء أشرف يكتب: حرف الواو

البراء أشرف يكتب: نسيان

البراء أشرف يكتب: عن الحكايات والسجائر

البراء أشرف يكتب: موسيقى حزينة جداً

البراء أشرف يكتب: عن الكتابة والعطف على الكلاب

البراء أشرف يكتب: ليل – خارجي

البراء أشرف يكتب: عن السلاحف والأرانب

البراء أشرف يكتب: ستة أسباب للحنين إلى “روبي”

البراء أشرف يكتب: عن الاضحاك كمسألة سخيفة

محمد عبد الرحمن يكتب : أستاذي البراء أشرف

وفاة البراء أشرف

.

تابعونا علي تويتر من هنا

تابعونا علي الفيس بوك من هنا