في عصرٍ يعجّ بالضجيج والاستقطاب والحسابات الخوارزمية، ظهر إعلامي مصري مخضرم، لم يشعل التريند بخبر عاجل أو تحقيق مدوٍ، بل بلحظة إنسانية خفيفة، وهو يتذوق مشروب “الماتشا” للمرة الأولى.
كان ذلك في مايو 2025، حين نشر محمود سعد مقطع فيديو عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت هي الـ"ونس" مع متابعيه كما يحب أن يحكي معهم، ويظهر فيه وهو يحتسي الماتشا، ويتفاعل مع طعمه بدهشة طريفة وتعليق ساخر.
نرشح لك: محمود سعد: تناولت لحم الحمير لمدة 10 سنوات دون أن أدري
ضحك الملايين. لكن خلف الضحك، كان هناك شيء أعمق يتحرك، عودة الإعلامي المخضرم بحلّة جديدة يجيد أدواتها في عصر رقمي وهو يتسلل إلى القلوب لا عبر المعلومة، بل عبر الدفء والبساطة.
ما حدث لم يكن مجرد فيديو عابر. سرعان ما تدفّقت التعليقات، وانهالت “الميمز”، وتفاعل الآلاف، كلٌ بطريقته.
بعضهم شارك تجاربه الخاصة مع “الماتشا”، وآخرون اكتفوا بقول: “بعد رد فعل محمود سعد، مش هجربه أبدًا”، وحسابات شاركت المزاح، وساهمت في تحويل المقطع إلى ما يشبه حالة وجدانية جماعية.
لكن الأهم من ذلك أن هذا المشهد البسيط كشف عن قدرة محمود سعد الذي ترأس تحرير "الكواكب" في زمن جميل يعود إليه دوما بحكاياته في فضاء العالم الرقمي على إعادة تعريف دوره في عصر تغيرت فيه قواعد الإعلام.
لم يعد الجمهور ينتظر من الإعلامي التحليل فقط، بل ينتظر منه القرب، والونس، والحكاية.
محمود سعد ليس طارئًا على المشهد.
لعقود ظل يمثل صوتًا شعبيًا صادقًا، سواء في برامجه التلفزيونية كـ”البيت بيتك” أو لاحقًا في برنامجه الأشهر “باب الخلق”، الذي جال فيه شوارع القاهرة، لا ليُظهرها، بل ليُصغي لها.
ومع توقف طلته على شاشة التلفزيون، انتقل سعد إلى فيسبوك ويوتيوب وإنستجرام وأي ساحة رقمية متاحة، حيث بنى جمهورًا جديدًا فوق الجمهور القديم.
لكن هذا الانتقال لم يكن تكنولوجيًا فقط، بل كان تحولًا فلسفيًا في علاقة الإعلامي بالجمهور.
ولك أن تراه ذات يوم وهو في دبي حيث قمة المليار متابع، إذ كان في جلسة نقاشية مع طوني خليفة، ومن بين الكلام سؤال عن الأرقام والمحتوى وكيفية النظر إلى مشاهير السوشيال ميديا.
واعتراف طوني خليفة بأنه يعاني من قصة الأرقام والتقييم بناءً على المشاهدات، بينما محمود سعد كان يهمه تقديم مادة هو راضٍ عنها بصرف النظر عن عدد المشاهدين، وربط النجاح بأنه "لو حد قابله، يكون شايف شغله كويس".
بساطته المعهودة نجا محمود سعد من فخ تساؤل طوني خليفة.. لو يدير مؤسسة إعلامية.. هل يحاسب الموظفين على عدد المشاهدات أم النوعية؟”، بالرد عليه: “مش هحط نفسي في الموقف ده”.
وبعدها قال له إنه لا يمكن فصل المشاهدات والمحتوى، واعتبر أنه "فيه حاجات ممكن تجيب أرقام مشاهدات ولكن مؤقتة"
لكن في حالة محمود.. لماذا محمود يصنع التريند بسهولة ويستمر؟
ليست المسألة في التوقيت أو الحظ. بل في معادلة دقيقة:
• ثقة طويلة الأمد.
• بساطة لا تُصطنع.
• لغة تحاكي البيت والشارع.
• فهم ذكي لطبيعة الجمهور المتغيّر.
ما فعله محمود سعد في فيديو الماتشا، لم يكن عرضًا كوميديًا، بل مشهداً إنسانيًا نادرًا في زمن التجميل الإعلامي.
وهو مشهد قادر على الوصول من الإسكندرية إلى الخليج، لا عبر الترجمة، بل عبر الشعور.
وكما هو الحال مع كل شخصية جماهيرية، لن يخلُ الحدث من الأصوات الناقدة.
قد يتساءل البعض.. هل تحوّل سعد من إعلامي مؤثر إلى صانع محتوى طريف؟
هل فقد الجدية لصالح الشعبية؟
لكن هذه الأسئلة قد تُغفل تحوّلًا عميقًا في بنية الإعلام ذاته. فالجمهور اليوم يبحث عن الأصالة، لا الوقار الزائف.
والصدق، حتى لو جاء في رشفة كوب شاي عملاق بالنعناع كما يحبه محمود سعد، قد يكون أكثر تأثيرًا من عشرات المقالات وساعات الهواء على الشاشات.
هو محمود سعد كما يحب أن يقدم نفسه وهو يعبر السبعين بحيوية وبساطة تتذكر والدته ووالده وكل عائلته وأحبابه بما لا ينسى من أحداث تسجلها ذاكرته عن طيب خاطر من الشارع وكواليس الفن برموزه وصولا إلى عيد ميلاد رئيس الجمهورية والموقف من التغطية الإعلامية كما تظهر عناوين قناته على اليوتيوب التي قدر معها أن يعبر المليون الأول مع متابعيه.
ما فعله محمود سعد يُعيد تعريف فكرة التأثير الإعلامي في زمن تسيطر فيه المنصات على المضمون، يقدّم لنا تجربة مضادة: الإنسان هو المنصة أو كما يتردد أن المعلومة مهمة، لكن ما يمسّ القلوب يبقى أكثر وليس مؤقتًا.
وهكذا، تحوّلت لحظة بسيطة من “رشفة ماتشا” إلى مرآة تعكس ما يمكن للإعلام أن يكونه حين يعود إلى جوهره.. صوت حقيقي، وسط عالم مزدحم بالصدى.