عمرو منير دهب يكتب: الحق هو الحق.. الفصل الثامن من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

في مقال صحفي لا يخلو من الإنشائية على نحو ما كان ذائعاً قبل عقود في العالم العربي، أشار كاتب المقال إلى مقولة “الجمال هو الجمال” على لسان أحد الفلاسفة الغربيين المعاصرين، وتساءل الصحفي على ذات النمط من الإنشائية: ولا ندري إذا كانت مقولة الفيلسوف قد فسّرت مفهوم الجمال أم زادته تعقيداً.

من الواضح ظاهرياً إذا كان الفيلسوف المشار إليه قد وقف بعبارته عند هاتين الكلمتين (“الجمال” و”الجمال”) أنه لم يفسّر مفهوم الجمال تماماً كما أنه لم يزده تعقيداً، لكن بعض التأمل الدقيق قد يكشف عن حكمة تتوارى خلف هذا التعريف الذي يبدو مراوغاً بامتياز.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: حقيقة المرأة والرجل.. الفصل السابع من كتاب “كل شيء إلا الحقيقة”

تفسير المفهوم أو الكلمة بنفسها أمر شائع على سبيل السخرية، وعندما يصدر عن شخص بسيط المعرفة فإنه يفتح أبواباً عريضة للتندّر، مع إن ذلك لا يعني بالضرورة أن الشخص البسيط لا يضمر من وراء تعريفه الذي يبدو ساذجاً من المقاصد العميقة مثل ما يمكن أن تثيره للنقاش عبارة الفيلسوف المعاصر سابق الذكر. ولعل من الحالات النادرة لأخذ عبارة على تلك الشاكلة بجدية ما يتجسد في قولهم بالإنجليزية Business is business ، الجملة التي تُترجم إلى العربية الرسمية على هذا النحو: العمل هو العمل، وربما كان المرادف الأدق للعبارة في العربية الدارجة في معظم نسخها هو “العمل عمل” أو “الشغل شغل”. ومعلوم أن المراد بالعبارة ليس بُعداً فلسفياً بأية حال وإنما هو في بساطة وبراغماتية أن العمل (مجال المال والأعمال تحديداً) لا يُعنى في المقام الأول بالمشاعر أو الاعتبارات الأخلاقية وإنما يكاد ينصرف تماماً إلى ما يضمن نجاحه (المادي بطبيعة الحال).

بالعودة إلى عبارة الجمال هو الجمال، هذه المرة باستدعاء مقولة شاعر عربي معني بالأبعاد الفلسفية في شعره، نقرأ لإيليا أبو ماضي: “ليس الجمال هو الجمال بذاته ** الحسن يوجد حيث يوجد رائي” فنقترب أكثر ربما من المراد بعبارة “الجمال هو الجمال” وذلك من خلال صيغة نفي تتصدر عبارة شعرية بديعة بدورها، فأبو ماضي يرى أن الجمال يكمن حيثما أمكن لمتذوّق أن يحسّه، وبذلك يجوز فهم “الجمال هو الجمال” بأعمق ما يمكن على اعتبار أن الجمال يضع تعريفه كلُّ متذوّق على حدة.

ماذا عن “الحق”؟ هل يختلف الأمر من حيث إشكالية التعريف عن الجمال؟ بتحديد أدق، وبالاتفاق على أن كل شيء نسبي، هل تختلف مدى نسبية الحكم فيما يتعلق بما هو حق عن مدى النسبية الذي يبدو عريضاً فيما يتعلق بالحكم على ما هو جميل؟

الإجابة التي نرجحها على الشق الأخير من السؤال هي: لا، إذ سيكون غريباً أن يقال بأن نسبية مسألة ما أكبر من نسبية مسألة أخرى، سيبدو ذلك كما لو كان معارضاً لمفهوم النسبية نفسه. ولكن بعض المواضيع يبدو مغرياً بالاستحواذ على القدر الأعظم من مصادقاتنا بشأن نسبية الأحكام حوله، والجمال في مقدمة تلك المواضيع على الأرجح.

الحال مع الحق مختلف قليلاً، فأحكامنا عليه ليست أقلّ نسبيةً بحال، وأرجو أن يجوز التعبير. كل ما هنالك أننا مجبرون إلى حد ما على تضييق الاختلاف حول ما هو حق لضمان التواضع على القوانين التي تنظم شؤون الحياة على اختلافها من حولنا، سواءٌ أكانت تلك القوانين رسمية أو عرفية. وعليه، فإن نسبية الحكم على الحق تضيق إلى حيث تغدو مجالاً نظرياً قلّما يجد متّسعاً في واقع الحياة اليومية التي تبدو باستمرار كما لو كانت معركة لا يحاول الناس خلالها إعادة تعريف الحق بقدر ما يسعى كل واحد فيها إلى أن يثبت أنه على حق، وهذه في ذاتها مفارقة ضمن مفارقة أو لعلها “نسبية صغرى” داخل “نسبية كبرى”.

رأينا تحت عنوان “حقيقة الحقيقة” أن “للحقيقة أكثر من وجه، بل أكثر من نسخة بتعبير أدق كما في المقولة الشهيرة. ربما لا مناص في هذا المقام من أن نعيد سريعاً تأكيد أن الحقيقة تختلف باختلاف وجهة نظر قائلها انطلاقاً من أفكاره أو مشاعره أو حتى مصالحه الخاصة. الأكثر إرباكاً – وتصعيداً للتحدي على صعيد مواجهة تعريف الحقيقة و”حقيقتها” – هو ما يجابهه أي منّا مع شخص ما أو فكرة محددة أو عاطفة بعينها أو حتى مصلحة تخصه، سنجد أن مواقفنا وانحيازاتنا ليست بالثبات الذي نظنّه ونحن نواجه الشخص/الفكرة/العاطفة/المصلحة أول الأمر. تتغير آراؤنا وانفعالاتنا إزاء الموقف نفسه على مدى حياتنا – وأحياناً خلال فترات وجيزة جداً – تغيّراً واضحاً يصل أحياناً إلى حدّ التضادّ/التناقض، تناقضنا مع أنفسنا، أو – بتعبير آخر لمزيد من الدقة – مع نسختنا/نسخنا السابقة من أنفسنا، تناقضنا إزاء “الحقيقة” التي كنا ننافح دونها على صعيد أخلاقي أو عاطفي أو عملي ليس انقلاباً إلى “الباطل” أو “الزيف” وإنما انتقالاً إلى ما بات بمثابة “الحقيقة” الجديدة التي نظنها خالدة بدورها حتى تدهمنا مفاجأة من عيار ثقيل تسلمنا إلى “حقيقة” أخرى نراها أجدر بالخلود حتى إشعار آخر لا نكون مهيّئين له ابتداءً في الغالب”.

ربما سيبدو غريباً أن نسحب هذا الاقتطاف عن الحقيقة لينطبق على الحق، ولكنه على كل حال أمر ممكن لسببين: الأول عام، فكل فكرة وأي شيء ابتداءً يخضع لسطوة تأثير مفهوم النسبية بدرجة أو بأخرى. السبب الثاني أكثر تحديداً، إذ بقدر ما يبدو الحق معنى مجرداً بالغ السمو فإن إشكالية النسبية مع الحقيقة – التي يمكن وصفها بكونها التجلّي الواقعي للحق – ليست أشد تعقيداً وإرباكاً من إشكالية النسبية مع الحق، فنحن مع الحقيقة في حالة تحدٍّ أمام واقع لا يترك لخصمه باستمرار متّسعاً للمناورة كما هو الحال مع ما تتيحه مثالية (خيال؟) معالجة فكرة الحق من مناورات بلا حدود، حتى إنه لن يغدو ثمة تعريف أمثل للحق مما تجمله عبارة “الحق هو الحق”، بحيث يسهب كلٌّ في وضع ما يشاء من “الحقائق” بحسب ما تتبدّى له مكان كلمة “الحق” الثانية.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])