إسلام وهبان يكتب: "وش وضهر".. السر في التفاصيل

إسلام وهبان وش وضهر

“‏الحقيقة دايما بتوجع بس بتريح.. بالظبط زي الدوا المر اللي مبتطيقش طعمه سألت نفسي كتير ليه مخلوش طعم الدوا بالفراولة أو المانجا أو حتى المسقعة ملقتش بعد تفكير كتير غير إجابة واحدة.. الدوا مر علشان ينسيك مرارة المرض”.

على غرار قصة “طبيب الغلابة” يقدم مسلسل “وش وضهر”، الذي يعرض على منصة “shahid vip“، رؤية مختلفة لخفايا النفس البشرية ودوافعها، وما تحمله من وجوه عدة للخير والشر، وذلك من خلال حبكة درامية شيقة ومثيرة تقدمها ورشة سرد، والتي تشرف عليها الكاتبة مريم نعوم، وبرؤية فنية ذكية للمخرجة مريم أبو عوف.

استطاع المسلسل الذي يقوم ببطولته إياد نصار، وريهام عبد الغفور، وإسلام إبراهيم وثراء جبيل، وسيناريو وحوار أحمد بدوي وشادي عبد الله، أن يتصدر قائمة الأعمال الدرامية الأكثر مشاهدة في مصر عبر منصة شاهد خلال الست حلقات الأولى من عرضه، وسط إشادات عديدة من النقاد والمشاهدين، خاصة أهالي مدينة طنطا التي تدور فيها أحداث المسلسل.

من أول لقطة

في عالم الأدب، هناك ما يطلق عليه النقاد “عتبات النص”، وكلما استطاع الكاتب تقديم صورة شمولية لنصه الأدبي من خلال العنوان وافتتاحية قوية وجذابة، كلما ساعد القارئ على فهم النص، وأثار بداخله مزيدا من الفضول للتعرف على أحداث وشخصيات روايته. الأمر نفسه ستجده منذ اللحظة الأولى لمتابعتك أحداث مسلسل “وش وضهر”؛ فبخلاف العنوان اللافت الذي يوحي بمزيد من الغموض والتقلبات، فإنك من المشهد الأول تقف مشدوها أمام كل تفصيلة تتسلل إلى وجدانك، بداية من الأغاني الصوفية التي تنطلق من كاسيت ميكروباص، يتنقل داخل شوارع طنطا، ويستقر بميدان مسجد السيد البدوي، لتذوب بين الأجواء الروحانية ومحلات بيع الحلوى الشهيرة هناك، مرورا بتصاعد سريع للأحداث ليرفع بداخلك جرعة الأدرينالين، قبل أن تدخل في أجواء العمل وتعيش مع شخوصه دون أن تدري.

لم يترك شادي عبد الله وأحمد بدوي، المشاهد في حيرة التعرف على الخلفيات التي جاءت منها شخوص العمل الأساسبة، بل جعل المشاهد شريكا في الحكاية، حينما جعل الشخوص تحكي عن نفسها أمامه، كأنهم على خشبة مسرح، تظهر شخصية لتعرفك بنفسها وبخلفياتها، ثم تخرج لتدخل شخصية أخرى تقدم نفسها أمامك، ولا تملك إلا أن تتفاعل معها ومع حكايتها.

اسأل عن التفاصيل

ما يميز “وش وضهر” هو اهتمام صناع العمل بالتفاصيل بشكل مدهش، ليست تفاصيل الحكاية فحسب بل التفاصيل التي تخاطب حواس المشاهد، بداية من تتر المسلسل والموسيقى التصويرية، التي قدمها الفنان ساري هاني، والتي تمزج بين الحالة الروحانية التي يتصف بها المكان الذي تدور فيه أحداث المسلسل، وهو منطقة السيد البدوي بمسجدها وشوارعها ومبانيها، وبين الموسيقى العصرية التي تعكس الواقع وما تعانيه الشخصيات من ارتباك وتناقض.

كذلك اختيار وتصميم الملابس الذي قدمته مصممة الأزياء ريم العدل، والذي يتسق بشكل هائل مع الطبقات الاجتماعية وطبيعة الحياة لأبطال المسلسل، والتي تختلف من شخصية لأخرى، ومن شارع لآخر في أحياء طنطا والقرى المجاورة لها، كذلك اختيار الديكور والإضاءة التي تشعرك بمزيد من المصداقية والواقعية والدفء.

لم تكن تفاصيل الملابس والموسيقى والألوان وحدها هي التي رسمت من المسلسل لوحة فنية خاصة، بل أيضا اختيار الأبطال وضيوف الشرف وتطور الشخصيات جاء مميزا ومقنعا للغاية، وهو ما يحسب للمخرجة مريم أبو عوف، حتى الشخصيات الثانوية التي لن تظهر إلا في كادر أو شوت واحد، أو في جملة حوارية واحدة، كان اختيارهم موفقا حتى أنك تشعر بأنهم من أهل طنطا بالفعل بملامحهم الدافئة الودودة.

 الكنز في الرحلة

يحكي المسلسل قصة أمين مخازن في إحدى شركات الأدوية، يهرب إلى طنطا بعد حصوله على رشوة كبيرة بالخطأ، ليحقق حلمه الطفولي بفتح عيادة وانتحال صفة طبيب، بعد خبرته في مجال التمريض والأدوية لعمله لسنوات بعيادة أحد أشهر الأطباء، مما يضعه في كثير من المواقف الإنسانية المثيرة بعد تحقيقه شهرة واسعة كطبيب للغلابة، فهل سينكشف أمره أم ماذا تخبئ له الأيام؟

ورغم بساطة فكرة المسلسل إلا أن المعالجة الدرامية لها جعلت أكثر عناصر القوة في العمل، هو عنصر التسلية، والتي تجعلك مستمتعا بكل تفصيلة في العمل، فقد تكون الأحداث هادئة أو غير متوترة، لكنك منجذب لكل دقيقة في المسلسل، ومنتظر بشغف للحلقات الجديدة، فأنت مع كل مشهد تشعر بحالة من الونس، والانتماء إلى هذه الحالة البديعة، ولا تشعر بالملل حتى لو توقعت الأحداث، فأنت في حالة “انبساط صافي” بأداء كل شخصية وبالتوليفة الرائعة من موسيقى وألوان وإضاءة وصوت وسيناريو مكتوب باحترافية، فلا تنتظر حدوث شيئا استثنائيا أو طفرة في مجريات الأحداث، أو طرح تساؤلات كبرى، فالكنز في الحالة التي قدمها صناع العمل، والتي تستشعرها حتى في جملة عابرة.

“الفرحة في الزمن ده شحيحة، عشان كدة الخلق لما تجيلهم فرصة يفرحوا، بيشبطوا فيها ولا الأكلان في الجتة”.

الأقنعة الذهبية

يشارك في المسلسل العديد من النجوم، والذي يقدم كل منهم دورا استثنائيا، حيث الكثير من الخفايا والأسرار، وهنا تبرز لعبة “الأقنعة” فلكل شخصية جانب آخر لم يظهر بعد، فجمال الذي يقوم بدوره الفنان إياد نصار، رغم ما يحمله من حب للخير ومساعدة الفقراء، إلا أنه منتحل لشخصية طبيب وسارق يبحث مهربو الأدوية عنه، ويخفي الكثير عن حياته الخاصة، وهنا تظهر القدرات التمثيلية الهائلة لإياد نصار في تصدير حالة التوتر الدائم للمشاهد، والتعبير عن معاناته بالشكل الذي قدر يدفعك للتعاطف معه.

وش وضهر

كذلك “ضحى” التي تقوم بدورها الفنانة ريهام عبد الغفور، والتي تعمل ممرضة في عيادة “د. جمال” لكنها تخفي وراءها سر عملها كراقصة في الأفراح، لمحاولة توفير حياة مستقرة لأسرتها وتجهيز أختها اليتيمة، ورغبتها في إيقاع د. جمال في حبها. وجوه وأقنعة قد تسقط في أي لحظة، لكن براعة ريهام عبد الغفور ونضجها الفني الواضح منذ سنوات، يجعلك تقتنع بشخصيتها التي تشبه كثير من النساء في مجتمعاتنا واللائي يخضن تجارب قاسية من أجل لقمة العيش.

وش وضهر

وأعتقد أن حصان طروادة هذا العمل، هو الفنان إسلام إبراهيم، والذي على الرغم من تصنيف المسلسل كعمل اجتماعي كوميدي أو “لايت”، إلا أنه يقدم دورا مركبا وصعبا بعيد تماما عن الكوميديا، يعتمد بشكل أكبر على الانفعالات والحالة النفسية للشخصية، والتي قدمها بشكل متميز ومحير للمشاهد.

أما اللغز الأبرز في هذا العمل ومربك بشدة فهو شخصية “أبو البراء” والتي يقوم بها الفنان محسن منصور بأداء أكثر من رائع؛ شخصية ملغزة مليئة بعلامات الاستفهام، قد تكون رأيتها أو تعاملت معها في أحد الأيام، رغم ما تقدمها من مساعدة للآخر، ومحاولة للتودد الذي قد يصل إلى حد التنطع، إلا أنك لن ترتاح لها نهائيا، ويظل بداخلك توجس وريبة من نواياها، وقد برع محسن منصور في إيصال هذه الحالة للمشاهد طوال الوقت، بنظراته وابتساماته المريبة، وتمكنه من فهم الشخصية جيدا.

وش وضهر

هنا يتجلى الفارق بين الأقنعة وتناقضات النفس البشرية، فقد تجبرك الظروف لخوض تجربة قاسية أو العمل في وظيفة أو حياة لا ترغبها، أو تحاول أن ترى عيوبك وتناقضاتك وتتعامل معها، لكن هناك أيضا من يتمعن في ارتداء الأقنعة والظهور بصورة مثالية أو مخالفة تماما لباطنه من أجل الوصول لنوايا خفية، بل ويستمتع برسم هذه الأقنعة دون محاولة لفهم ذاته وتناقضاتها.

تكريم الكبار

يحتفي المسلسل بنخبة من كبار الفنانين، والذين غابوا عن الشاشة لسنوات عدة، من بينهم الفنان الكبير محمود قابيل، والفنانة ميمي جمال، والجميل أن ظهورهما لم يكن من باب الاحتفاء فحسب أو بمشاركة باهتة كما يحدث لكثير من الفنانين الكبار مؤخرا لمداعبة مشاعر الجماهير، لكنها مشاركات مؤثرة وقوية بدت فيها قدراتهم التمثيلية الكبيرة مهما تغيرت ملامحهم أو طال غيابهم.

وش وضهر وش وضهر

اللافت أيضا هو الظهور المتميز للفنان شريف الدسوقي، والذي تعرض من عدة أشهر لعملية بتر إحدى ساقيه، ولكن تم توظيف ذلك بشكل رائع وغير مخل بأحداث العمل، وبشيء من الاحتفاء بموهبته الفنية المتميزة، بالشكل الذي يجعلك تتأثر بالشخصية وتفاصيلها رغم بساطة الدور.

وش وضهر

يهمني الإنسان ولو مالوش عنوان

على الرغم من فكرة المسلسل التي قد تبدو بسيطة، إلا أنه يحتفي بالمفهوم الأوسع للإنسانية، ويطرح الكثير من التساؤلات حول حقيقة الخير والشر، والمساحات الضبابية بينهما، وحقيقة النفس البشرية وما تحمله من تناقضات، وما وصلنا إليه من ازدواجية في الحكم على الأمور، قد تصل إلى أن تحاكم امرأة دفعتها الظروف للعمل كراقصة، ولا تحاكم مجتمعا وقوانين لم تهتم بحقوقها المادية أو الإنسانية ولم توفر لها أبسط وسائل الحياة الكريمة.

يحتفي المسلسل أيضا بالاختلاف والذي لا يعتبره نقصا بل فرصة للتعايش، فتجد ضمن فريق العمل طفلا متميزا مبتور اليدين، يقدم دورا جميلا ومبهجا، وهو الطفل كريم لؤي، كذلك يظهر الصورة الحقيقية لأهالي القرى والنجوع في الأقاليم، ويبتعد عن الحياة القاهرية التي اكتظت بها الأعمال الدرامية، ويظهر مدى الصعوبات التي تواجه أبناءها.

“وش وضهر” عمل فني بديع وشيق، وتجربة تستحق الإشادة والتحليل، ويقدم صورة مختلفة للدراما المصرية تبتعد عن المباشرة والمركزية.


نرشح لك: موعد عرض مسلسل “منعطف خطر” لـ ريهام عبد الغفور وباسل خياط