فادي عاكوم يكتب: غادة العبسي.. أميرة الإبداع والتحدي

فادي عاكوم

في زمن تنهار فيه القيم الفنية والإبداعية، وتسود الموسيقى الغريبة والكلمات الأغرب، اختارت الدكتورة غادة العبسي أن تسير بعكس التيار، فبعد نجاحها بالإبداع الأدبي وإصدارها لعملين “سدرة” و”كوتسيكا”، ها هي تختار أن تقوم بتحدٍ جديد في مجال الإبداع الفني الغنائي، بأحد أعرق القصور الإبداعية بقلب القاهرة، وهو معهد الموسيقى العربية الذي بُني عام 1923، والتي تعتبر خشبة مسرحه حلما لكل فنان جاد.

نرشح لك: إلى عروس البحيرة وباقي النجوم: لا تضغط “نشر” ..النشر به سم قاتل

ولابد من التأكيد قبل الاسترسال بأن غادة لم تسع إلى التقليد أو اللجوء إلى الصوت المستعار، بل فرضت صوتها الخاص خلال الأداء طيلة حفلها الخاص الأول، فغادة اختارت في التحدي أن تقدم باقة من أجمل وأعرق وأصعب الأغنيات العربية، التي كتبها ولحنها وغناها مؤسسي النهضة الفنية العربية، والتي لا تزال في اللاوعي الفطري لدينا، لتؤكد أنها تمتلك الأنواع الثلاثة من الصوت النسائي، “الغليظ ألترو”، والمتوسط “ميتزو سبرانو”، والرفيع “سبرانو”، وبالتالي خاضت التحدي للدلالة على قدرتها التنقل بين الطبقات، بين “الصادح” والسوبرانو” و”الميتزو سوبرانو” بالإضافة إلى قدرة واضحة على الغناء الأوبرالي، مع انتقالها السلس بين النغمات المدية المرتفعة والنغمات المدية المنخفضة، والقدرة على الغناء بصوت منخفض لتتولى الآليات الصوتية الحديثة باقي المهمة أو على الأقل الجزء المكمل للعمل ككل، وأجزم القول بأن صوتها يمتلك واحد تون أي ثمانية طبقات على الأقل وهي ميزة لا يتمتع بها معظم الفنانين الذين يتهربون من خوض هذه التجربة، مع التأكيد أن صوت غادة يتمتع بليونة فريدة قريبة من الروح المستمعة، وهو ما أنتج تفاعلا جميلا بينها وبين الجمهور الحاضر والذي بالمناسبة لم يترك كرسيا في القاعة فارغا.

وغنت غادة في حفلها الأول أغنيات عدة كأغنية “بكرة يا حبيبي” من كلمات عبد الرحيم منصور وألحان كمال الطويل، و”تملي قلبي” من كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان محمد فوزي، و”يا غريب الدار “من كلمات فؤاد عبد الحميد وألحان فؤاد عبد الحميد، و”اطلب عينيا” من كلمات أبو السعود الإبياري وألحان محمود الشلايف، و”عندما يأتي المساء” من كلمات محمود أبو الوفا وألحان محمد عبد الوهاب، و”فات الميعاد” من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان بليغ حمدي.

أما بعد الاستراحة فقد أبدعت بأغاني كثيرة منها، “سهرت منه الليالي” من كلمات حسين أحمد شوقي وألحان عبد الوهاب، و”افرح يا قلب” من كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي، و”زوروني كل سنة مرة” كلمات يونس القاضي وألحان سيد درويش، وموشح لحظ رنا من كلمات فؤاد عبد الحميد وألحانه، و”حيران” كلمات مرسي جميل عزيز وألحان محمد الموجي، والأغنية العالمية “ليالي الأنس” التي كتبها أحمد رامي ولحنها الجميل فريد الأطرش، و”أحبك حبين” كلمات طاهر أبو الباشا وألحان رياض السنباطي، وأخيرا “الحياة حلوة” من كلمات أحمد بدرخان وألحان المبدع فريد الأطرش.

وربما تجدر الإشارة إلى أمر ربما هي نفسها لم تلاحظه، أنها كانت أمام لجنة من المستمعين الذواقة، فهي حاولت الوصول إلى القرار – أي الطبقة المنخفضة من الصوت خلال تأدية أغنية فيروز “زوروني كل سنة مرة”، والانتقال المباشر إلى جواب أو الطبقة العيا من الصوت شكل لها تحديا كبيرا، أتت النتيجة أقل من الممتاز مقارنة بتأدية الأغنيات الأخرى، وربما تكون الانتقالة السريعة صعبة بعض الشيئ لكن غادة حاولت، فأتت النتيجة أقل من المتوقع، وربما ما ينقص غادة في الوقت الحالي هو التحدي، ليس فقط مع الأصوات النسائية بل أيضا مع الأصوات الرجالية من خلال ثنائيات تثبت مقدرة الصوت بل تطلق كافة أدواته بشكل تلقائي، أو تأد إحدى الاغنيات الطويلة التي تثبت مقدرتها الحقيقية.

غادة ولتزيد من درجة التحدي اختارت ترنيمة مريم وهي إحدى الترانيم الصعبة، التي لا يستطيع أن يؤديها إلا المتمرسين في الكورال الكنائسي الشرقي، فتحول هذا الصرح التاريخي إلى كنيسة بشكل مؤقت يتمايل على صوت غادة الملائكي، فاقشعرت الأبدان وصمتت الأرواح، واللافت الصمت التام السائد بين الجمهور الحاضر خلال أدائها للترنيمة وانفعاله الجميل بعد انتهائها.

ومن باب الإنصاف القول عن دور الفرقة الموسيقية التي كانت بقيادة المايسترو محب فؤاد، والتي كان لها الدور الكبير بتألق غادة، كما لا بد من الاعتراف بأن غادة استطاعت الحفاظ على هيبة المكان، فمزجت صوتها بالحجارة لتنعكس على الحاضرين طربا وعشقا بالمكان، فأكدت أنها تليق بالمكان وتاريخه وبالجمهور الجميل الذي وثق بها.

فألف تحية لغادة المتحدية والمبدعة.