عمرو منير دهب يكتب: "الشهرة والبراغماتية" الفصل الثاني والعشرون من كتاب لوغاريتمات الشهرة

عمرو منير دهب

في كتاب Pragmatism، النسخة العربية بعنوان “البراغماتية” عن دار الفرقد بدمشق عام 2014، يقول وليم جيمس William James الفيلسوف الأمريكي الشهير و”أبو علم النفس الأمريكي” كما يلقبه البعض، ومؤسس مدرسة البراغماتية الفلسفية (مع تشارلز ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce)، يقول وليم جيمس: “البراغماتي يدير ظهره بقوة وحزم ولمرة واحدة مبتعداً عن الكثير من العادات المتأصلة والعزيزة على ممتهني الفلسفة. وهو يبتعد عن التجريد وعن انعدام الكفاية، وعن الحلول الكلامية، وعن أسباب افتراضية رديئة، وعن مبادئ ثابتة ومحدودة، وعن أنظمة مغلقة، وأصول وثوابت مدّعاة. يترك هذه كلها ليلتفت إلى ما هو ملموس وإلى الكفاية، ونحو الحقائق، ونحو العمل، ونحو القوة. وهذا يعني أن مزاج التجريبي هو الغالب المهيمن، وأن مزاج العقلاني قد تم التخلي عنه. ويعني الهواء الطلق وإمكانيات الطبيعة مقابل مبدأ وعقيدة وسطحية وادعاء غايته الحقيقة”.

نرشح لك: سقراط والشهرة: الفصل التاسع من كتاب لوغاريتمات الشهرة

قبل أن نتطرّق إلى بعض جوانب علاقة البراغماتية بالشهرة، نواصل قليلاً مع وليم جيمس في موضع آخر من الكتاب، الفصل الأخير منه تحديداً: “في المبادئ البراغماتية لا نستطيع أن نرفض أية فرضية إذا انبثقت عنها نتائج مفيدة للحياة. والمفاهيم ذات الصلة بالكون، ومن حيث هي أشياء ينبغي التفكير بها وأخذها بنظر الاعتبار، قد تكون حقيقية عند البراغماتية مثلما الأحاسيس المعينة. وهي حقاً ليس لها معنى ولا واقع إن لم يكن لها فائدة. أما إذا كان لها أية فائدة فلها ذلك القدر عينه من المعنى. وسيكون المعنى صحيحاً إذا كانت هذه الفائدة متوائمة ومتفقة مع فوائد الحياة الأخرى”.

تلك لمحات خاطفة عن المقصود بالبراغماتية وغايتها من أحد مؤسسيها، والمقاصد الدقيقة لهذه المدرسة الفلسفية – سواء فيما يضمه كتاب جيمس الذي هو محاضرات ألقاها في مدينتي بوسطن ونيويورك أواخر عام 1906 وبداية عام 1907، أو في غيره – تنطوي لا شك على الكثير من التعقيدات التي ليس هنا مجالها بحال. لكن ما عرضنا له يكشف أن المقصود بالبراغماتية كما في التداول العام ليس بعيداً تماماً عمّا يريده من أسّس لها، وذلك مع ملاحظة أن وليم جيمس نفسه يعبّر في مقدمة الكتاب عن عدم تفضيله للاسم الذي ذاع عن المدرسة التي أسسها: “مع أنني لا أميل إلى هذه التسمية لكن يبدو أن الأوان قد فات الآن لتغيير التسمية”. ولعل هذا يمنح تبريراً – بضمير مستريح نوعاً ما – لقبول المرونة في استيعاب بعض دلالات المصطلح عبر ما قد يظنه البعض مرادفاً له من الكلمات من قبيل “الذرائعية” و”العملية” و”الواقعية” وغيرها.

بأخذ ما سبق في الاعتبار، وبأيٍّ من تداعيات المصطلح ومرادفاته المتداولة على الصعيدين النخبوي والجماهيري، تبدو البراغماتية وثيقة الصلة بالشهرة، فالشهرة تحضّ الطامحين إليها بأي صعيد على ركوب أي طريق يسهّل الوصول إليها، ولن يعدم طامح إلى الشهرة وسيلة إلى انتزاع المبررات من براثن الأخلاق والمُثل ليسوّغ ركوبه طريقاً منبوذاً بدرجة أو أخرى من الناحية الأخلاقية أو الاجتماعية لبلوغ غايته من الشهرة والمجد.

البراغماتية تعفي الطامحين إلى الشهرة من التأصيل الأخلاقي والتخريج الاجتماعي لأفعالهم المجترَحة على الدروب المفضية إلى الشهرة، بحيث تبدو “الغاية تبرر الوسيلة” كلمة منطبقة تماماً على هذا السياق. وإذا كانت البراغماتية تقيس جدوى الفعل بفائدته المتحققة، فإنها بذلك تسبغ على المشاهير تحديداً من ثياب الشرعية ما يشملهم من أعلى الرأس إلى أخمص القدم ويفيض.

الشهرة تجبّ ما قبلها، بل تمحو ما يحيط بها من المحرّمات الأخلاقية والمنبوذات الاجتماعية في كثير من الأحيان، بحيث تبدو كما لو أنها تؤسس لقبول مطلق أو شبه مطلق يطغى على كل ما يحيط بالمشهور من الشكوك الأخلاقية والتحفظات الاجتماعية التي تضمحل في غمرة أضواء الشهرة الساطعة وهي تلفّ المشهور وتكاد تحتويه تماماً.

الشهرة تكاد تؤسس لأخلاق جديدة وقواعد اجتماعية مبتدعة تفرض نفسها بإقناع يكتسب سطوته شبه المطلقة من الأضواء الباهرة، بحيث إمّا أن يقبل الناس مجال الشهرة وما يحيط به من تحفظات سابقة في العرفين الأخلاقي والاجتماعي وإمّا أن يغضّوا الطرف عن الشبهات الأخلاقية والاجتماعية التي تحيط بمجال الشهرة انصرافاً إلى المادة الباهرة التي يقدّمها المشهور. هذا في حال أن يكون مجال الشهرة نفسه محلاً لشكوك أخلاقية أو خلافات اجتماعية حول قبوله، أمّا فيما يتعلّق بسلوك طرق مشبوهة وصولاً إلى مجال شهرة لا خلاف حول قبوله اجتماعياً وأخلاقياً فالأمر أهون بكثير، ذلك أن الجماهير تميل في تلك الحالة إمّا إلى عدم تصديق الروايات التي تقدح في نزاهة السبل التي أوصلت بطلها المشهور إلى المجد وإمّا إلى تصديق تلك الروايات بدرجة ما ثم نسيانها أو اغتفار ذنوب البطل المشهور حتى إذا لم يكن قد قدّم اعتذاراً علنياً يعلن عبره ندماً زائفاً يغرق في سيل من الدموع.

الشهرة من أجل الشهرة لا تبدو بحاجة في تبريرها إلى بركات البراغماتية، فما المانع الأخلاقي من أن يسعى أحدهم إلى الأضواء حبّاً في الظهور مجرّداً إذا لم يكن في ذلك الظهور وتبعاته ما يجافي الأخلاق؟ لا يبدو أن ثمة مانعاً أخلاقياً بقدر ما يبدو الحرج اجتماعياً إلى حدّ ما، فالناس في أغلب المجتمعات لا ترتاح إلى من تطغى عليه النزعة الزائدة لحب الظهور إلّا إذا أجاد إخفاء تلك النزعة بمهارة في المادة التي يقدّمها بحيث تبرز المادة بجلاء وتظل قادرة على أن تجذب الجماهير باستمرار وتشغلهم عن الالتفات إلى طبيعة صاحبها المحب للظهور بشكل مزعج.

هكذا إذن تبدو البراغماتية بصفة عامة كما لو أنها تقدّم سنداً قوياً للمشاهير والطامحين إلى الشهرة، فتكاد تجيز لهم كل سبيل إلى الشهرة والمحافظة عليها بعد تحققها، وذلك بالنظر إلى نتائج/فوائد الشهرة صاحبة السطوة العظيمة على وجدان الناس في كل زمان ومكان.