محمد سليمان عبد المالك يكتب: الباحثون عن عكاشة!

محمد سليمان عبد المالك
كنت طفلا لم يتجاوز عمره الثماني سنوات عندما شاهدت على شاشة التلفزيون المسلسل الدرامي “بين القصرين” المأخوذ عن ثلاثية عملاق الرواية نجيب محفوظ. اعتلت الهيبة ملامح محمود مرسي في دور السيد أحمد عبدالجواد “سي السيد”. ارتسمت الطيبة والوداعة في عيني هدى سلطان “أمينة”. الشقاوة في ضحكات صلاح السعدني وتيسير فهمي “ياسين وعائشة”. الخضوع في ملامح مديحة حمدي “خديجة”.
الإرادة والانكسار في لغة جسد كمال أبورية “فهمي”. تدفق الحوار سهلا وسلسا، وتضافرت القصص والحبكات في نسيج حارة القاهرة داخل بيت العائلة حتى انفجرت ثورة ١٩١٩ ومات فهمي برصاصات الإنجليز المحتلين الغادرة.

في سن الثانية عشر تقريبا، بدأت في قراءة الثلاثية الروائية، وبحثت في سطور الرواية عن محمود مرسي وهدى سلطان وبقية عائلة السيد عبدالجواد فلم أجدهم. لم يكونوا هم الذين ظهروا على الشاشة التي سحرتني قبل أعوام. هذا عالم آخر وهذه شخصيات أخرى وهذا حوار آخر مختلف. صحيح أن له سحره وجماله لكنه مختلف. وفهمت بعدها أن الذي رأيته على الشاشة ليس نجيب محفوظ، وإنما شيئا من روحه، تكفل بصياغتها وإعادة تقديمها مبدع آخر لا يقل عنه فنا ولا أهمية، اسمه السيناريست محسن زايد.

نرشح لك: السيناريست محمد عبد المالك: أراهن على أبطال “راجعين يا هوى”


عندما شاهدت بعدها فيلم بين القصرين من بطولة يحيى شاهين وآمال زايد، وجدت بصمات إبداعية إضافية للسيناريست يوسف جوهر، والمخرج حسن الإمام. هي رؤية مختلفة لنفس العالم ونفس الشخصيات ونفس الأحداث، العبرة هنا ليست القصة وإنما من يحكيها، وكيف يحكيها.
انتقال نفس القصة بشخصياتها وعالمها من وسيط إلى آخر يتطلب تطويرا Development وتكييفا Adaptation، فلكل وسيط للحكي تقنياته. الفيلم السينمائي ليس كالحلقات المسلسلة، والإذاعة ليست كالمسرح، والأدب يختلف عنهم كلهم. وعي الكاتب مهم، وروحه وسيطرته على مسار الحكي أهم.

كان الأستاذ أسامة أنور عكاشة يرفض أن يحول أي نص أدبي إلى آخر درامي، ويفضّل العمل على مواده الأصلية وإن كان يعود فيها إلى مصادر الأدب العالمي المفتوحة من أيام الفراعنة والإغريق، وربما يتصدى لعمل شكسبيري هو “ترويض النمرة” في “وأدرك شهريار الصباح”. لهذا حملت أعماله بصمته الوراثية الخاصة جدا، والتي كانت سابقة لعصرها جدا في أوانها. استطاع عكاشة أن يصنع خلطة سرية خاصة به، ستجد لغة حوار مميزة، وشخصيات ذات طابع خاص متكررة في بعض الأحيان، وأماكن ذات هوية فنية واضحة، وحبكات بسيطة في تعقيدها، وبهذه الخلطة السرية حقق عكاشة نجاحين مذهلين لا نجاحا واحدا. النجاح النقدي، والنجاح الجماهيري، مما ضمن له مكانا مميزا في مقاعد الخالدين.

على العكس، غاص الأستاذ محسن زايد في عوالم نجيب محفوظ، وأخرج منها دررا درامية لا تنسى، فمن ينسى معالجته للحرافيش “السيرة العاشورية”، ورائعته “حديث الصباح والمساء”؟! هو إبداع محفوظ مضفرا في إبداع زايد، ولا ينتقص ذلك من أي منهما قطعا. إنه كل أكبر من مجموع أجزائه.

في السعي لمعالجة مسلسل “راجعين يا هوى دراميا، كان التحدي مضاعفا. عكاشة نجم في الكتابة التلفزيونية بمقاييس اليوم قبل الأمس. أعماله محفورة في الأذهان والوجدان. كيف يمكن إعادة تقديم مسلسلا إذاعيا “شخصياته وحبكاته في غاية البساطة” لجمهور الدراما التلفزيونية بعد تقديمه بنحو عشرين عام؟! كيف يمكن لكاتب الدراما التلفزيونية أن يقترب من عالم عكاشة ويبتعد عنه في الوقت نفسه دون أن يبدو ذلك تناقضا مزعجا للمتلقي؟! كيف يمكن الوصول لسقف التوقعات العالية حيث يعود عكاشة لجمهوره بعد وفاته بعشر سنوات؟! كيف يمكن إعادة تقديم الحارة بصريا ودراميا في ثوب جديد لا ينفصل عن القديم؟! وهل ما زال الصراع بين الحارة والقصر “إحدى تيمات عكاشة المفضلة” موجودا حتى اليوم؟!

لم يكن الإقدام على المغامرة ممكنا دون حب. في عصر لا نقدم فيه الحارة المصرية على الشاشة إلا مرتعا للبلطجة والقبح والقذارة والضوضاء والتلوث، كان الاختيار أن نبحث عن وجوه الجمال فيها بصريا حتى ولو لم تكن القصة تحتمل تصوير الصراع بين الحارة والقصر دراميا. يكفي الإشارة إلى عالم الأستاذ عكاشة من بعيد. ويكفي أن نتذكر أنه عندما تعتاد العين على الجمال فسوف تعتاده الروح أيضا.

المسلسل الإذاعي نفسه كان خفيفا وساخرا، لذا خرجت الشخصيات منه بسيطة التكوين والملامح ربما بما لا يتناسب مع مسلسل تلفزيوني طويل. وكان الحل في استخدام مرجعيات للشخصيات تمتد جذورها في عالم أسامة أنور عكاشة الدرامي العميق نفسه. لا بأس من بعض المبالغات التي أجاد عكاشة رسمها في شخصيات مسلسل “أنا وانت وبابا في المشمش” مثلا، أو في “لما التعلب فات”، أو حتى في الشخصيات التي أداها الفنان الراحل محمد متولي في أكثر أعمال عكاشة عمقا “مثل أرابيسك أو أبوالعلا البشري أو حتى ليالي الحلمية”.

والأهم من كل ذلك، كان الهدف أن يحمل المسلسل الدرامي روح عكاشة، لكن بحضور فعلي لصناع العمل من كتابة وإخراج وتمثيل. لم نكن نطمح إلى إعادة صنع الخلطة السرية بحذافيرها، وإنما أن تظل لمساته حاضرة في عالم جديد مختلف. أعمال عكاشة الخالدة تم تقديمها بنجاح مدوي عابر للأجيال، استنساخ هذا العالم بتفاصيله ربما يكون ضربا من مستحيل، لكن الممكن هو صنع مزيج من سحر الأستاذ وفنه، واجتهادنا في البناء عليه، واستكمال طريقه، في محاولة لإصلاح الجسر المكسور بين الأجيال.

الباحثون عن عكاشة، سيجدون أعماله التي لن ينتقص الزمن من تألقها وسحرها منتشرة على الإنترنت والشاشات حتى اليوم، أما من يبحث عن عمل فيه لمسات عكاشة بروح جديدة، فربما ينظر لمسلسل “راجعين يا هوى” كخطوة أولى على الطريق، نفس الطريق الذي سار فيه محسن زايد مقتفيا فيه أثر نجيب محفوظ، على أرواحهم جميعا السلام والرحمة.