عمرو منير دهب: المفاهيم المسبقة عن الشخصية المصرية

للمفاهيم المسبّقة سطوة لا تقاوم على أي صعيد، فتكوين أي مفهوم على أي نطاق ليس أمراً يسيراً للناس بصفة عامة، فنحن – بني آدم وبنات حواء – نحب أن نختصر الحياة المعقدة في حزم من الأفكار والآراء المعلّبة الجاهزة للاستخدام عند الحاجة، وكأننا لا نصدّق أن ننتهي من إعداد رأي ما حول أي موضوع و”تعليبه” فلا نسمح بالمساس به لأن ذلك المساس قد يؤدي إلى خلخلة مفهومنا الجاهز واضطرارنا إلى إعادة عملية إنتاج الرأي كاملة، ما يعني خسائر معتبرة نخشى أن لا نكون قادرين على تحمّل تبعاتها المعنوية.

الآراء المسبقة هي أبرز أشكال الأفكار الجاهزة المعلّبة، أو هي الخطوة التي تسبق تعليب أفكارنا تجاه أية قضية لأول مرة، وذلك قبل أن نجرؤ على تحدّي المفهوم المسبق “الأول” ومناوشته لا للتحرّر من سطوة المفاهيم المسبّقة وإنما في الغالب لتكوين مفهوم مسبق “آخر”، وقلّما نظفر بنعمة التحرّر من قبضة الأفكار المسبقة ونجعل عقولنا وقلوبنا منفتحة لقبول أي احتمال لأية رؤية في أي سياق.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: اختراع التقاليد المصرية

 

إن لم تكن أكثرها على الإطلاق، فإن الشخصيات الوطنية من أكثر المواضيع إغراءً باستدعاء المفاهيم المسبّقة عند التعامل معها، وربما المدهش أننا نستدعي أفكارنا المسبقة عن أية شخصية وطنية حتى دون أن نكون مضطرين إلى التعامل المباشر معها وإنما فقط مطالعتها من بعيد أو الإدلاء برأي في أية جلسة نقاش مع مجموعة تعاملت مع تلك الشخصية الوطنية، وليس من المبالغة القول بأن جلسة النقاش تلك قد تضم مشاركين لم يتعامل أيٌّ منهم تعاملاً مباشراً مع الشخصية الوطنية محور الحديث.

لن تكون الشخصية المصرية بدعاً إذن في مسألة تكوين الآخرين آراءً مسبقة حولها، بل إنها من الأكثر إغراءً بذلك لتأثيرها الطاغي في محيطها الإقليمي ولصيتها الذائع عالمياً بفضل واحدة من أقدم الحضارات على مدى الوجود الإنساني.

والحال كتلك، لن ينجو من يهبط أرض الكنانة ويتجول في شوارعها لأول مرة من قبضة المفاهيم المسبقة التي تسعفه في استيعاب الدهشة التي تضمّها حيوية مصر والمصريين الفريدة. لكن في المقابل سيصطدم الزائر بحشد من المفارقات التي تزعزع كثيراً من آرائه المسبقة بما يقتضي إعادة تكييفها وليس تعديلها في الغالب، وذلك كما أشرنا في البداية عند الحديث عن مواقفنا بصفة عامة تجاه أفكارنا وآرائنا المسبقة.

لكن الآراء المسبقة حول أية شخصية وطنية ليست فقط قدَر أولئك الذين يطالعونها من الخارج وإنما تسيطر كذلك على المنتمين إليها بدرجة أو بأخرى، بل ربما كانت سطوتها على المنتمين إليها أكبر سواءٌ بدافع الانحياز الفطري إلى الأصول العرقية والوطنية أو على العكس نتيجة الاكتواء المباشر بظروف قاهرة على الصعيد العام للوطن أو الخاص بتجربة ذاتية بعينها.

لن يكون إذن سيل الآراء الجارف حول الشخصية المصرية عبر العصور إلا مدفوعاً بقوى مفاهيم وانطباعات مسبقة مختلفة الأصول والمرجعيات، وذلك بغض النظر عن طبيعة تلك الآراء من حيث الانحياز لصالح الشخصية المصرية أو ضدها، ابتداءً بهيرودوت ومروراً – دون ترتيب زماني – بأبي الصلت والمسعودي والمقريزي وجاسبار دي شابرول وكلوت بك والجبرتي وإدوارد وليام لين وسيد عويس وجمال حمدان وحامد عمار وميلاد حنا. وسيلاحظ القارئ تداخل الأسماء غير المصرية والمصرية من أصول عربية والمصرية الخالصة في القائمة المختصرة جداً لمن طالعوا الشخصية المصرية عبر الزمان، وهو تداخل أملته طبيعة التناول التي اتسمت عموماً بالمكاشفة وأحياناً المصادمة والغضب وليس التمجيد الأجوف بحال، سواءٌ من قبل الأجانب أو العرب أو المصريين وهم يتعرضون بالتشريح لواحدة من أكثر الشخصيات الوطنية ثراءً وإثارة من كل الوجوه.

في كتاب “الاستشراق بين دعاته ومعارضيه” الصادر عن دار الساقي طبعة 2016 لمجموعة من الكتاب والمفكرين هم محمد أركون ومكسيم رودنسون وآلان روسيون وبيرنارد لويس وفرانسيسكو غابرييلي وكلود كاهين، من ترجمة وإعداد هاشم صالح، يشير مكسيم رودنسون إلى أنه من الناحية العلمية “من الأهمية بمكان أن ندرس الطريقة التي تنبثق فيها وتتبلور وتتطور المواقف والمفاهيم الخاصة بمجموعة واسعة من الشعوب ذات الثقافة المتشابهة أو المتماثلة تجاه مجموعة أخرى من النوع نفسه. فالأفكار الشائعة عموماً بخصوص هذا الموضوع تحت اسم العرقية المركزية “والعنصرية” صحيحة بشكل يقل أو يكثر، ولكنها تظل “غامضة” أكثر مما ينبغي. كما أن الأمر لا يمكن أن يتعلق أيضاً بمجرد رؤيا موضوعية بحتة للواقع، كما يعتقد عملياً الجمهور العام الامتثالي أو المستشرقون الذين يشاطرونه المنظور نفسه على الرغم من علمهم وتبحرهم. كنت قد حاولت أن أبرهن على أن العوامل الكبرى المؤثرة هي من جهة الحالة الراهنة والمتغيرة لكلا العالمين المتواجهين. وهي من جهة أخرى الاتجاهات الداخلية للمراقب المنخرط الذي يطلق الأحكام على الوضع. (وهذه الأحكام هي بحد ذاتها متغيرة طبقاً لحاجيات داخلية أيضاً إلى حد كبير)، وهذه الاتجاهات تميل عادة إلى تشكيل ذاتها على هيئة أيديولوجيات. ونتيجة لذلك فهي لا تشكل صورة واحدة كما يعتقد الكثيرون من المحللين في غالب الأحيان، وإنما تشكل عدة صور بحسب البيئات والطبقات الاجتماعية والمكانة التي يحتلها أعضاء هذه الطبقات في العلاقات القائمة مع العالم الآخر. وكذلك الدور الذي يلعبونه، ودرجة انخراطهم في إيديولوجيات عالمهم أو معسكرهم، إلخ”.

يواصل رودنسون: “وكانت إحدى النواقص الكبرى في رأيي… الاعتقاد “الساذج” بهيمنة صورة واحدة. وبالطبع فهي الصورة الأكثر نظرية، أي الصورة التي يجهد في فرضها الإيديولوجيون “العضويون” أو المثقفون الرسميون المنتمون إلى الثقافة التي تطلق هذه الأحكام. ولكن الحقيقة مختلفة تماماً عن ذلك كما آمل… أما المناضلون الإيديولوجيون فيعلنون أن كل صورة هي إيديولوجية. وهذا ما يتيح لهم القول إن كل الصور تتساوى فيما بينها، وبالتالي يحق لنا أن نختار الصورة التي نحبها دون أي تبرير موضوعي. إنهم يحاولون القضاء على فكرة الموضوعية من أساسها. ولكني حاولت من جهتي أن أسير في اتجاه مختلف عندما سعيت للبرهنة على أن الأدلجة الأكثر تطرفاً لشعب ما لا تستطيع أن تمنع وجود بعض هوامش الموضوعية التي قد تكون أحياناً مقلصة جداً، ولكن التي يمكن للظروف أن تطورها وتنمّيها، حتى لو لم يكن ذلك إلا بعد دفع الثمن الذي قد يجعلنا نخسر من جهة ما نربحه من الجهة الأخرى”.

يتحدث مكسيم رودنسون عن استحالة أو ربما “زئبقية” الموضوعية، وذلك فيما سبق من كلامه المقتطف عمّا ورد في كتاب “الاستشراق بين دعاته ومعارضيه”، نقلاً عن رودنسون في مقدمته لكتابه “جاذبية الإسلام”. السياق ليس بعيداً تماماً، فاستحالة/زئبقية الموضوعية تطال تناول الحديث عن أية شخصية وطنية بأقدار لا تقلّ عن تلك التي تطال الحديث عن المذاهب السياسية والأفكار الأيديولوجية، بل إن تحدّي الموضوعية عند الحديث عن الشخصيات الوطنية أكبر لتأثير المشاعر الانفعالية وهو ما يصعب تجاوزه عند الحديث عن أية شخصية وطنية سواءٌ من قبل من ينتمون إليها أو أولئك الذين يطالعونها ويحكمون عليها من الخارج، وسواء أكانت تلك الانفعالات تحيّزاً للشخصية الوطنية أو ضدّها كما أشرنا من قبل.

بالعودة إلى الشخصية المصرية، وباستدعاء التجربة الذاتية الصرفة يتجلّى لي ما أشرت إليه بتعبير “زئبقية” الموضوعية، إيماءً إلى “مهارة” الموضوعية نفسها في المراوغة والتملّص حتى من أشدّ المدّعين لتحرّيها بحرص وتجرّد كبيرين. التحدّي يكمن من جهة في دقة المعرفة ومهارة استنباط الحكم الأنسب في كل مقام، ومن جهة أخرى في مغالبة الانفعال الشخصي مهما تكن حدّته. فقد نشأت في وسط يفترض أن يمنحني أفضلية الاقتراب من الشخصية المصرية لبضعة أسباب وجيهة كالانتماء الجغرافي للقبيلة في السودان، إضافة إلى العلاقة الخاصة للسودان بصفة عامة بمصر، ثم دراستي الجامعية بمصر، وقبل ذلك كله العلاقات العائلية الخاصة شديدة التشابك مع مصر على أكثر من صعيد.

ظللت أتقلب في النظر إلى مصر من موقف إلى آخر ومن حال إلى أخرى، فمصر التي في خاطري منذ الطفولة ليست هي مصر في زمن الصبا، ومصر التي خبرتها عن قرب أيام الدراسة الجامعية ليست هي مصر التي واصلت احتكاكي بها بُعيد التخرج من الجامعة تطلعاً إلى العمل أو في غضون ممارسة عمل مؤقت، وهي ليست مصر التي ظننت أن صورتها النهائية “الموضوعية” قد اكتمل تشكّلها لديّ مع بدايات الكتابة في الصحف، وهي ليست مصر التي أكتب عنها الآن وأنا أزعم أن هذا هو آخر وأفضل ما يمكن أن يتكون في خاطري عنها.

كما أشرت في بداية الحديث، مصر – أو الشخصية المصرية – ليست بدعاً في هذا، فذاتية الرؤى تطال كل شيء، وإن كان تحدّيها أكثر تعقيداً مع مواضيع بعينها كالكتابة عن الشخصيات الوطنية لا سيما تلك التي تتضمنها قائمة اللاعبين المتميزين على مدى التاريخ الإنساني، القائمة التي تحتل فيها الشخصية المصرية مكانة فريدة بصرف النظر عن موقف من يتأمّلها من حيث طبيعة انحيازه، أو موضوعيته المدّعاة.

 

للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي: ([email protected])

 

موضة السفر إلى ألبانيا.. ما القصة؟