القهوة عند العرب.. ليس مجرد فنجان بل مشروب أشعل الفتن

القهوة عند العرب

أحمد أبو درويش

لعلك صديقي عاشق القهوة، الطامح في العمق، حين تحضّر قهوتك الصباحية، سواء إن كنت تشربها في كوب زجاجي أو فنجان، أو في كوب التيك أواي، لا تعرف أن ذلك المشروب الذي أصبحت له عشرات الطرق في التحضير، أثار قتالا أهليًا في مصر والشام ومكة! لعلك لا تعرف أنه كان مشروبا محرما كحرمة المخدرات والخمور.

ربما وأنت تجلس لتحضر طقوس القهوة وتسمع على رشفاتها جارة القمر “فيروز”، سواء كان ذلك في أفخم الكافيهات أو المقاهي الشعبية أو حتى في شرفة منزلك، لم يتعرض لك أحد ويفتك بك أو ينزل عليك حكما بالجلد، لمجرد أنه رأي فنجان القهوة بين يديك ورضابها يداعب شفتيك.

نرشح لك: 3 ترندات في 24 ساعة.. نقلع الحجاب ولا نلبسه؟

أحمد أبو درويش

شغلت القهوة مكانة كبيرة في العالم العربي، فحظيت باهتمام وجدل كبيرين وصل لتحريم البعض شربها ما أحدث اضطرابات وفتن في مدن عربية، كما خصصت لها عادات في تناولها وطبيعة مجالسها، بل وتغنى شعراء أفذاذ بحبها.
لكن لم يحسم حتى الآن من أدخلها إلى الوطن العربي وكيف كانت رحلتها بين البلاد وصولا لتعلق العربي بها منذ عدة قرون حتى الآن.

كيف وصلت القهوة ليد العرب

رحلة شراب القهوة في البلاد العربية رحلة مبهمة بعض الشيء فلا يعرف على وجه الدقة أول بلد دخلته ولا الكيفية التي دخلت بها. ولمحاولة تبيان ذلك الأمر استعنا بكتاب “مقاهي الأدباء في الوطن العربي”، والذي حاول فيه الكاتب رشيد الذوادي، تأريخ دخول القهوة للبلاد العربية، فقال إن أول بلد عربي دخلته القهوة كانت تونس، حيث دخلت مع أبو الحسن الشاذلي، واستعان بها على التهجد والعبادة.
يضيف الذوادي إن القهوة انتشرت في اليمن ثم في الحجاز ثم انتقلت بعدها إلى بلاد الشام ثم مصر في القرن السادس عشر الميلادي، وأخيرا انتشرت في جميع الأقطار.

أما الأديب المصري جمال الغيطاني، في كتابه ملامح القاهرة في ألف عام، فيشرح كيف دخلت القهوة إلى مصر، فيقول إن أول من اهتدى إلى القهوة هو الفقيه المتصوف أبو بكر بن عبد الله المعروف بالعيدروس، والذي كان يمر في سياحته بشجر البنّ فاقتات من ثمره حين رآه متروكا مع كثرته، فاتخذه طعاما وشرابا وأرشد اتباعه إليه، ثم وصل أبوبكر إلى مصر، واختلف الناس حول هذا المشروب الجديد، هل حرام أم حلال”.

آداب تناول القهوة

ولا تعد القهوة مجرد مشروب كغيره من المشروبات، لكنها اكتسبت عند العرب زخما كبيرا وألحقوا بها آدابا عدّة لشربها.

وكان من تلك الآداب أن تدار من اليمين بلا تمييز وأنها تكره “الفنجان الناير” وهو الفنجان الذي لا ينتظم في الدوران بالمجلس ويخصص به المضيف أحد الوجهاء.

وبحسب الذوادي، فقد يعاتب شخص إذا مرّ على حارة أحد الأصدقاء ولا يتناول معه فنجان قهوة لأن القهوة أصبحت من تقاليد الضيافة عند العرب.

والتزمت عدد كبير من القبائل العربية على مر الأزمان بآداب شرب القهوة والتي صارت مع مرور الوقت قوانين صارمة، ومنها طريقة الإمساك بالفنجان فمن يحمل إناء القهوة “الدلّة” لابد وأن يحملها بيده اليسرى ويقدم الفناجين للضيوف باليد اليمنى. ومن ذلك أيضا أن تكون كمية القهوة في الفنجان قليلة إن كانوا في البدو وتزيد هذه الكمية إن كانوا من الفلاحين.

ويتناول الضيف الفنجان بيده اليمنى، فتناوله بيده اليسرى فيه إهانة للمضيف، ولابد أن يكون معتدلا في جلسته لا متكئا.

وإذا اكتفي الضيف من القهوة فلابد من تدويره الفنجان عدة مرات ليفهم من ذلك أنه اكتفى وتعارف العرب قديما على شرب القهوة ثلاث مرات، وقالوا إن الفنجان الأول هو فنجان الضيف والثاني فنجان الكيف والثالث فنجان السيف (ويعني: مناصرة المضيف).

وكان العرب لا يأخذون حريتهم الكاملة في الحديث إلا بعد انتهاء شرب القهوة. وامتدت هذه العادة إلى مصر قديما بحسب ما رواه “كلوت بك” مستشار محمد علي باشا في كتابه “لمحة عامة إلى مصر”، فقال: جرت العادة في البيوت المصرية ألا يفتح حديث قبل شرب القهوة.

وفي مصر، ومع بداية القرن التاسع عشر ـ بحسب ما جاء في كتاب ملامح القاهرة في ألف عام ـ كانت القهوة تقدم في بكرج (دلة توضع بها القهوة) وتوضع على جمر في وعاء من الفضة أو النحاس يسمى “عازقي” ويعلق هذا الوعاء في ثلاث سلاسل ويقدم الخادم القهوة ممسكاً أسفل الطرف بين الإبهام والسبابة، وعندما يتناول الفنجان والطرف يستعمل كلتا يديه واضعاً شماله تحت يمينه، وتستعمل مجمرة تسمى “منقدًا” من النحاس المبيض بالقصدير، ويحرق فيها البخور أحياناً، وكانت القهوة يضاف إليها أحياناً الحبهان، أو المصطكا (المستكة)، أما الأغنياء فكانوا يضيفون إليها العنبر».

فتاوى تحريم شرب القهوة

“الشام”

لكن الانتشار الواسع للقهوة في الوطن العربي، استثار حفيظة عدد من الفقهاء، الذين كانوا يتحفظون أمام كل جديد. فيروي الذوادي أنه في العصر الأيوبي حدث جدل فقهي كبير حول تحريم شرب القهوة، حيث أفتى الشيخ يونس العيثاوي أحد مدرسي مدرسة “الأتابكية” بدمشق بتحريم شرب القهوة، وأصرّ على ذلك في مجلس قاضي الشام “علي أفندي” ما دعا بالشيخ أبو الفتح بن عبدالسلام المالكي، (فقيه وشاعر دمشقي) أن يعرّض به في بيتي شعر كتبهما، فقال:
أنا أفتي بمقتضى الظاهر .. أنها مغنم
ليت شعري من أين للماعز .. أنها تحرم

“مصر”

وفي مصر أيضًا استمر الجدل الفقهي حول تحريم القهوة حتى العصر العثماني فيقول الغيطاني إن البعض حرّم القهوة لما رآه فيها من الضرر، وخالفهم آخرون ومنهم المتصوفة. ويستعرض المؤرخ المصري “الجبرتي” قضية تحريم القهوة ويقصّ علينا هذه القصة الطريفة، فيذكر “أن أحد أئمة المساجد بناحية “باب الخلق” (وسط القاهرة) حرّم شرب القهوة، وأمر بإحراق البنّ فقامت ضجّة في القاهرة بين من أباحوا شرب القهوة، ومن حرموا شربها، ثم استقرّ الأمر بعد ذلك وانزوى هذا الشيخ الذي أثار الفتنة”.

ووصف بعض الناس القهوة لأحد الوعاظ المصريين وهو “شهاب الدين أحمد عبد الحق السنباطي”، وقالوا إن الناس يشربونها ويزعمون أنها مباحة ويترتب على شربها مفاسد كثيرة. فأفتى السنباطي بحرمتها واعتبرها نوعا من أنواع الخمور المسكرة، دون أن يعرفها.

وتكرر الأمر بعد ذلك بعامين فذكرت له القهوة في مجلس وعظه بالجامع الأزهر، فأصر على الإفتاء بحرمتها. يروي الكاتب تأثير تلك الفتوى في نفوس العوام، إذ ذهبوا إلى “بيوت القهوة” فهاجموها وكسروا أوانيها وضربوا جماعة ممن هناك، وحدثت فتنة عظمى واقتتال بالقاهرة إثر تلك الحادثة. فتدخل قاضي مصر حينها وهو الشيخ محمد بن إلياس الحنفي، فاجتمع بعلماء الفقه فحكم الغالبية بحلها، ثم أمر بإعداد القهوة في مجلسه ودعا ضيوفه لشربها وناقشهم لملاحظة تأثير تغييبها للعقل، فلم يجد شيئا، فأقر شربها وأباحه.

وكتب أحد الفقهاء ويدعى “الحجبون بجرة” أرجوزة يهاجم فيها فتوى التحريم، فقال:

إن أقواما تعدوا .. والبلاء منهم تأتى
حرموا القهوة عمدا .. قد رووا إفكا وبتها
إن سألت النص قالوا .. ابن عبدالحق أفتى
يا أولي الفضل اشربوها .. واتركوا ما قال بهتا

لكن الأمر لم يدم على استقامته في القاهرة إذ حدث هجوم من “صاحب العسس” (قوات الشرطة) على بيوت القهوة في شهر رمضان عام 945 هـ، وكبلت الناس بالحديد والحبال وحبسوا يومًا كاملا وضربوا 17 جلدة لشربهم القهوة في شهر رمضان بعد صلاة العشاء.

“مكة”

ويروي “عبد القادر بن محمد الجزيري” في كتابه “عمدة الصفوة في حل القهوة”، تفاصيل أكثر عن الجدل الفقهي حول تحريم الفتوى، فيقول، إن رجلين أوعزا إلى فقيه في مكة يدعى “شمس الدين الخطيب” بأن يصدر فيها حكما بحرمتها، وقبحاها له، فأصدر حكما بحرمانية شرب القهوة، بل وكتب حاكم المدينة منشورا بنص الفتوى. وعوقب كل من شوهد يشرب القهوة.
يقول “الجزيري”: “وكان الناس يشربونها في بيوتهم اتقاء شره (يقصد الحاكم) لأنه بلغه عن شخص أنه يشربها فعزره وطاف به في الأسواق”.

واستهزأ فقيه بالشام ويدعى “أبو الفتح المالكي” من فتوى الخطيب، فقال:

قهوة البن حرمت .. فاحتسوا قهوة الزبيب
ثم طيّبوا وعربدوا .. وانزلوا في قفا الخطيب
(ويقصد بقهوة الزبيب: الخمر)

ثم حرمت القهوة في مكة مرة أخرى عام 950 ه بسبب عمل امرأة “رومية” في أحد بيوت القهوة. لكن العوام لم يستجيبوا للفتوى وشربت القهوة جهارا نهارا.

أشعار في حب القهوة

الشعر العربي غنيّ بأشعار يمدح الشعراء فيها القهوة، فتغنى وتغزل بها الكثيرون، ولعل أجمل ما قيل عنها كانت قصيدة أبو نواس “يا خاطب القهوة الصهباء”
حيث يتحدث الشاعر مع القهوة ويطلبها للزواج فتشترط عليه مكان مخصص للسكن يكون من القنان لا من الخشب وأن يكون رطبا فلا تتعرض إلى الحر والشمس.

وهنا جزء من القصيدة:

يا خاطبَ القهوة الصّهباءِ، يا مَهُرها
بالرّطلِ يأخذ منها مِلأَه ذهبا
قصّرْتَ بالرّاح، فاحْذَرْ أن تُسمِّعها
فيحلِفَ الكرْمُ أن لا يحملَ العنبَ
إنّي بذلتُ لها، لمّا بصُرْتُ بها،
صاعاً من الدُّرّ والياقوتِ ما ثُقِبَا

ومن القصائد التي قيلت في حب القهوة أيضا، قصيدة “أحلى من الركوة” للشاعر اللبناني “طلال حيدر” وهي بالعامية الشامية وقد غناها مارسيل خليفة وعدد آخر من المطربين
وجاء فيها:

أحلى من الركوة
على منقل عرب
أحلى من الفنجان
حلوه
متل عُبي القصب
خيط القصب تعبان
جيبوا حدا من دمر
يدقدق وشم
جيبوا من الهامة
والوشم
بن محمّص وهب الهوا شامي
غمازة لعالخد
ما إلها اسم؟
والخد قدامي

وكذلك ما قاله شاعر عراقي يدعى جعفر الخرسان
يا قهوة تذهب هم الفتى
أنت لحادي العلم نعم المراد
شراب أهل اللَه فيها الشفا
لطالب الحكمة بين العباد
تطحنها قشراً فتأتي لنا
في نكهة المسك وطيب المداد
فيها لنا برء وفي حالها
صحبة أولاد الكرام الجياد

ومن ذلك ما قاله الشاعر:
للبن سر قد حكته شيوخنا
يا نعم منه كلهم أقطاب
فيهم نقول وقد تكامل وصفة
في أكله نفع فيه ثواب

القهوة عند العرب