عمرو منير دهب: جرعات منشطة في الوريد المصري

“أفادت مصر من ضيوفها – ومن أولئك مَن كان من الضيافة في ثقل الغزاة – من طريقين رئيسين أوّلهما مباشر بالمصاهرة والثاني شبه مباشر بالتداخل الاجتماعي والثقافي. وربما كان ثمة طريق ثالث غير مباشر ولكن أكثر انتشارًا وتأثيرًا وهو السماح للأمم المستضافة بأن تفرز ثقافاتها الخاصة في مجتمعاتها داخل البلد المضيِّف والإقبال على تلك المجتمعات للاستزادة من الثقافات المفرَزة على اختلاف أشكالها البعيدة عن ثقافة المجتمع المستضيف. في المقابل، نحن لم نسلك في السودان أيًّا من الطرق الثلاثة في التعامل مع ضيوفنا (وغزاتنا) على قلَّتهم – قياسًا إلى مصر – بل كنا نجبر أولئك الضيوف على الانصياع لثقافتنا وطقوسها في الإبداع على شحّتها، فثقافتنا أصيلة على مدى تاريخها ولكن الإبداع بمعنى الجرأة على الإضافة ظل فيما يبدو منطبعًا في نفوسنا على أنه (بدعة) حتى قبل أن تأخذ الكلمة جلالها وخصوصيتها الدينية في مراحل متأخرة جدًا بعد دخول الإسلام كضيف (عزيز لا ريب) أصبح لاحقًا سيد البيت”.

استمرارًا في الاقتطاف – ذي الصلة غير البعيدة بعنوان هذا المقال – من كتاب “على حواشي الشخصية السودانية” نقرأ: “وإذا كان معلوما أن المصاهرات بين الأعراق المتباينة مما ينمِّي القدرات بالمدلول الجيني الحرفي، فإن تصاهر الثقافات مما يفعل الشيء ذاته بالمدلول الفكري حرفيًا. مصر المثقلة بالغزاة والضيوف على مرّ تاريخها لم تكن بحاجة ماسّة إلى استيراد رموز من أصول أجنبية وحقنها في شرايينها الثقافية والاجتماعية حديثًا، لكنها فعلت. فرمزها الشعري الأرفع أحمد شوقي شركسي الأب يوناني الأم، بل إن أحد أشهر شعراء عاميّـتها هو بيرم التونسي أصلًا لا لقبًا فحسب، والمنفلوطي من أم تركية، وأحمد تيمور مؤلف قاموس العامية المصرية كرديّ الأب تركي الأم، ويحيى حقي أحد أعمدة الأدب المصري الحديث ينحدر من أسرة تركية أمًّا وأبًا، وعلي أحمد باكثير يمني مُنِح الجنسية المصرية، أما نجيب الريحاني الذي يَضرب بروحه الفنية الكوميدية عميقًا في الشخصية المصرية فعراقي من أصول كلدانية، ويوسف شاهين أشهر المخرجين المصريين على الإطلاق من أب لبناني وأم من أصول يونانية، ومحمد خان أحد أهم مخرجيها الذين برزوا في ثمانينيات القرن الماضي ظل يحمل الجنسية الباكستانية فقط حتى حصل على الجنسية المصرية قبل وفاته بأعوام قليلة، كما أن سعيد حامد الذي بعث فجرًا جديدًا للسينما المصرية بفيلم كوميدي أواخر القرن الماضي لا يزال يحمل الجنسية السودانية، وكلا خان وحامد يبدع بروح مصرية صميمة”.

نرشح لك: في حب مصر كثيرة الأعراق

بالاستزادة من الاقتطاف الذي انسرب إلى صلب هذا المقال، فإن “ما سبق من رموز مصر من الأصول غير المصرية إنما هو على سبيل المثال العابر، فالقائمة التي تحوي تلك الفئة في العصر الحديث فقط بالغة الطول. ولكن الأثر الأعمق لدى المصريين للسماح بتغلغل الثقافات الوافدة في نسيج المجتمع كان فيما وراء أولئك الأفراد من الأفكار الجامعة والتفاصيل المتناثرة لهذه الحضارة وتلك مما حلّ ضيفًا على مصر لطفًا أو عنوةً على مرّ العصور”.

وسواء مع الأفراد أو الأفكار الجامعة والتفاصيل المتناثرة للحضارات المختلفة فإن تأثير التداخل الاجتماعي والثقافي للآخر مع مصر لم يتم دومًا بصورة تدريجية وعلى مهل فحسب وإنما بصورة مباشرة وعاجلة أيضًا في كثير من الأحيان، وتلك جرأة في تقبّل الآخر والإفادة منه تُحسب لمصر، وهي تدلّ عمومًا على سعة صدر وأفق بلا حدود في المصاهرة – على شتّى أشكالها – ما دام المنتَج الاجتماعي أو الثقافي الأخير سيخرج ممهورًا بالخاتم المصري الدالّ على الانتماء لساناً وهوى، حتى إذا حمل ذلك المنتَج وراء اللسان ملامح الاختلاط بالأعراق الأخرى، وأحياناً الملامح الصرفة لتلك الأعراق، وحتى إذا كان من الصعب أن يُحكَم على الهوى نفسه بكونه مصريًا خالصًا لم يُفِد مما خالطه من الأهواء الأجنبية، وإن يكن ذلك الهوى المنسوب في النهاية إلى مصر ينطوي لا ريب على فرادة تصعب نسبتها مجملةً لسوى مصر من الشعوب أو البلاد.

لم تستنكف مصر عن أن تستوعب ريادة أبي خليل القباني السوري (ذي الأصول التركية بدوره) في المسرح والتمثيل عمومًا، كما أنها لا تزال تحتفظ لجريدة الأهرام بموقع الصحيفة الأكثر شهرة وتوزيعًا لزمان طويل ومؤسِّساها ليسا سوى اللبنانيين بشارة وسليم تقلا، وهي لا تزال تستقبل جحافل الإحساس الغنائي والفني الرفيع من المغرب العربي ومن الشام وغيرهما من أصقاع العالم (ليس العربي وحده) لتصدح وتؤدِّي في الغالب بلهجة وروح مصريتين ولكن دون أن تفارق المتلقّين طبيعةُ الانتساب غير المصري لأولئك المبدعين. كل ذلك مجددًا على سبيل المثال، فما تغلغل في الكيان المصري عبر العصور بالغزو الصريح وبالتلاقح السلسل (وكثيرًا ما كان الحدثان يقعان معًا بصورة متوازية وأحيانًا متداخلة) يظل أعمق أثرًا من أن يستوعبه سياق واحد مهما يبلغ من الدقة والتفصيل.

فضلًا عن الجرعات المنشطة ثقافيًا واجتماعيًا في الوريد المصري، فإن أثر الجينات المنشطة بالمعنى البيولوجي المباشر لم يكن أقلّ عمقًا ولم تكن مصر بدورها أقل تجاسرًا على استيعابه والإفادة منه من ثم، ليس تعمّدًا بالضرورة بوصفه سبيلًا إلى “تحسين النسل” بيولوجيًا، وفي الوقت نفسه دون إنكار ما يمكن أن يكون لآثار التزاوج البيولوجي من فوائد وهبات عظيمة تخلع أثرها تلقائيًا على عمليات “تحسين النسل” الثقافي والاجتماعي والحضاري بصفة عامة.

للتواصل مع الكاتب: (من هنــــا)