في محكمة السوشيال ميديا.. الحكم يسبق المداولة

تخيل لو أنك في محكمة تواجه تهمة ما، والقاضي الموكل له الحكم وتقرير مصيرك لا يعرف عنك شيئا ولا عن قضيتك، لا يستمع إليك ولا لأدلة براءتك أو حتى مبرراتك، فقط ينصت لصاحب الصوت الأعلى داخل القاعة.. مهزلة، أليس كذلك؟! هذا هو حال مواقع التواصل الاجتماعي الآن؛ تنعقد المحاكمات وتوضع المشانق، الاتهامات جاهزة، والدفاع مرفوض، أنت مدان حتى يبرئك التريند ولا مفر من ذلك، حتى وإن برأتك محاكم القضاء تظل سمعتك رهن حكم المتابعين، و”العِيار اللي ميصيبش يدوش” كما يقولون.

نرشح لك: دراسة.. لماذا تفضل الوكالات والعلامات التجارية التسويق عبر المؤثرين؟


أن تقول رأيك المخالف للاتجاه السائد على مواقع التواصل الاجتماعي، تكون أشبه بمن ألقى بنفسه في النار حيا، وهو يعلم أنه لن ينقذه أحد، أو على الأقل الأيادي القليلة الممتدة لإنقاذه لن تصل إليه.. حالة من العبث الآن ربما لم نصل إليها من قبل بهذه الحدة، إلا وقت الخلافات السياسية إبان ثورة يناير وما تلاها لسنوات قليلة، حتى أن الرجل كان ليهجر أخاه لاختلافه معه سياسيا، أو لاختلاف رؤيتهما وتحليلهما للأحداث ككل خلال هذه الفترة، إلى أن حدثت حالة من التشبع الكامل من متابعة الأخبار والأحداث، فانصرف الجمهور عنها طوعا وكرها؛ طوعا لأن النفس البشرية لم يعد فيها متسع للمزيد من النقاشات والخلافات الساذجة الزائدة عن الحد، وكرها لأن عجلة الحياة كانت لا بد أن تعود لطبيعتها مرة أخرى، بل وأفضل مما كانت عليه، حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه من هذا الوضع العبثي بالكامل.

جملة “السوشيال ميديا سلاح ذو حدين” لم تعد مجرد كلمات نرددها بلا دليل، بل نقولها الآن والسلاح مصوب في وجوهنا، ومن خلف ظهورنا أيضا؛ يقوم وينتفض الناس لأحداث وأشخاص دون تحقق مما حدث، بل قد نكتشف في النهاية أنه لا وجود لهم، مثلما حدث في وقائع كثيرة سابقا، منها الطبيبة الشابة ماريان ماجد التي انتفضت السوشيال ميديا لوفاتها، ليتبين بعد ذلك أنه لا وجود لطبيبة بهذا الاسم، وأن الحساب مزيف، والصور الموجودة عليه لفتاة تونسية، وغيرها العديد من المواقف المماثلة التي تتصدر تريندات مواقع التواصل ثم نكتشف أنها مزيفة.

الأسوأ من ذلك أن تهاجم شخصا لا تعرفه، لصالح آخر لا تعرفه أيضا، وربما لا يكون هناك دليلا على ما يقال عنه سوى منشورات متداولة، خاصة فيما يتعلق بقضايا الأعراض أو كل ما يمس السمعة، فتجد الأمر قد أخذ منحى متطرفا للغاية من كل الأطراف، إما مغالاة في الدفاع أو استماتة في الهجوم، فمثلا لو تعرضت فتاة للتحرش وقلت إنك تدعمها وتساندها في اللجوء للقضاء للحصول على حقها من الجاني، لكنك في الوقت نفسه ترفض أن تصف الشخص بالمتحرش أو المغتصب لأنك فعليا لم تكن شاهدا على الواقعة وقت حدوثها، وتنتظر حكم القضاء ضده، سيقال إنك متحرش مثله وأنك ضد المرأة وترفض حقوقها… إلخ، حتى وإن كان من يقول ذلك امرأة وليس رجلا، ففي محكمة السوشيال ميديا ليس مقبولا أن تتضامن مع الضحية في الحصول على حقها بالقانون فقط، بل لا بد أن تسب وتلعن الجاني الذي لا تملك دليل إدانة واحد ضده، وتحكم عليه بنفسك إن كان بريئا أم لا.

لماذا لا ننتظر القضايا المنظورة أمام القضاء؟ لماذا جعلنا من أنفسنا قضاة وشهودا على ما لا نعلمه؟ لا تصدق من يقول لك إنك ظالم لأنك لم تؤيد أو تهاجم فلانة أو فلان، ادعم كل الناس في الحصول على حقهم بالطرق القانونية، وإياك أن تكون قاضيا على ما لم تشهده، ولا يحق لك الحكم فيه، لأنه حتى وإن كانت ساحات القضاء القانونية ظالمة أحيانا، فمحاكم السوشيال ميديا متطرفة طوال الوقت، فقط كل المطلوب منك أن تكون منصفا.. أو مت وأنت تحاول.