البحث عن مزاج.. في دراما الكورونا

فاطمة خير

في إطار إطلاقها لقناة OSN pop-up، خصصت الشبكة الشهيرة هذه القناة حاليا لأفلام الفنان عادل إمام، احتفالا بعيد ميلاده.

انطلقت أفلامه منذ أول أيام عيد الفطر المبارك، وتستمر حتى الآن، تجربة ممتعة بشكل حقيقي، فأن تشاهد “الأعمال الكاملة” لنجم الكوميديا الأول للعالم العربي خلال الأربعين سنة الماضية؛ لهو شئ مدهش حقا، خاصةً أن القناة تعرض الأفلام بإيقاع محدد وليس بشكل عفوي، ووفقا له يمكن مشاهدة فيلم يومي في منتصف اليوم، للثلاثي الرائع: عادل إمام ووحيد حامد وشريف عرفة، ويا له من مثلث إبداع متميز.

نرشح لك: سيرة القراءة (1).. طنط روز

وبعيدا عن متعة مشاهدة أفلام هذا الثلاثي، وفرصة مناقشتها مع ابني وابنتي، لشرح كثير مما يستحق معرفته عن التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري، والتحديات التي واجهته في فترة التسعينات، تلك الفترة التي ظهر فيها الإرهاب بوجهه القبيح على أرض الواقع، لكن كثير من العوامل جعلته يغيب عن واجهة الفن والإعلام بالدرجة التي يستحق مواجهته بها؛ إلا أنني توقفت عند فيلم “النوم في العسل”، عرضته القناة أكثر من مرة، وشاهدته مرتين، كالعادة يأسرني حوار وحيد حامد، لكنني هذهِ المرة شاهدت البطل بعين أُخرى لا تلك التي شاهدت بها الفيلم للمرة الأولى على شاشة السينما عام 1996، فاستمتعت به كعمل سينمائي، واستمعت لنداء “التوجه للطبيعة” كحل لإنقاذ البشرية؛ لكنني الآن وبعد مرور كل هذهِ السنوات، رأيت البطل وهو يحارب طواحين الهواء، ويطلق نداءات الاستغاثة، ويحرض الجميع، مبشرا بالنجاة الممكنة غير المستحيلة إطلاقا إن نحن عُدنا إلى إنسانيتنا.

أعود لأتأكد من عام عرض الفيلم، وأجد حوالي 24 عاما قد مرت، لماذا إذن يبدو الأمر وكأنه حديث؟ وما أعنيه هنا هو الضغوط غير المحتملة التي نعيشها جميعا، لقد انتبه لها مؤلف ومخرج وممثل منذ ما يقرب من ربع قرن، وفي حوار رائع بين البطل ضابط المباحث والطبيب الذي يساعد في حل لغز العجز الجنسي الذي انتشر كالوباء، يتحدث البطل عن استعادته لحيويته عند خروجه للطبيعة، ويفسر الطبيب ذلك بأسباب علمية نفسية واجتماعية، تنطبق تماما على زماننا وظروفنا الحالية بغض النظر عن كل التفاصيل، وعما عانيناه جميعا على مدار السنوات التي بدأت بهذا العقد.. حين زال الاستقرار المزيف، فالمسألة إذن قديمة، جذورها تسبق وقت أن شببنا عن الطوق، والمسألة أكبر من خياراتنا الشخصية، لكننا مسئولين عنها، فخلاص كل شخص بيده إلى حدٍ كبير.. هكذا يأتي الخلاص الجمعي، وهي الرسالة التي فهمها البطل واختار أن يخطو خارج المنظومة.

الفارق الوحيد.. أننا الآن نعيش في ظروف أصعب، أحد أسبابها هو السعي خلف كل ما هو مزيف: المظاهر الكاذبة والمشاعر المصطنعة والمكاسب الهشة، ونترك كل ما هو قيّم في حياتنا، والنتيجة كما جاء في الحوار بين البطل والطبيب: أن يبحث الإنسان عن سد احتياجاته المتعلقة بالغذاء وحسب.. فيتحول إلى خنزير، وذلك بعد أن ضاع “المزاج” و”الانبساط”.. السعادة الحقيقية.

في أزمة كورونا حصل الجميع على تحديد إقامة جبري أو اختياري، حتى من يستطيع الخروج لن يجد مكانا “يضيع” فيه وقته، صحيح أن أغلبنا أُصيب بالملل لكن في الحقيقة لا أحد يموت بسبب الملل، والحقيقة أيضا.. أن هذهِ الأزمة قد قامت “بغربلة” احتياجاتنا الأساسية في الحياة، بل وجعلتنا نعرف من هم أقرب الناس إلينا : هؤلاء الذين ينقذوننا وقت الحاجة. 

خلال الحديث عن المزاج والاستمتاع بالأشياء والبحث عن الإنسانية، حتى لا نتحول إلى حيوانات كل ما يهمها هو إشباع رغباتها الحسية، وفي ضوء الواقع الغريب الذي نواجهه جميعا بمحاربة أو النجاة من فيروس قاتل لا نراه، وكأننا نعيش في فيلم هوليوودي؛ حينها لا بد وأن يأخذنا التفكير لما نريد حقا؟ وما لا نريد؟ ما الذي نحبه حقا؟ وما الذي لا نحبه؟ ما الذي يمنحنا السعادة؟ وما الذي يبيع لنا الوهم؟ وهنا ولأننا نشاهد الفيلم على شاشة التليفزيون، بالتأكيد سنسأل أنفسنا: ما الذي نرغب في مشاهدته عقب انتهاء هذا الفيلم؟ وأؤكد لكم أن الإجابة لن تكون سهلة وسيكون القرار صعبا، فمع كل هذا التنوع أصبح من الصعب أن نختار ما سنشاهده، ليس لأنه لا يوجد ما يستحق المشاهدة؛ بل لأنه سيكون من الضرورى أن نختار ما يستحق وقتنا وهل سيمنحنا “المزاج” والمتعة أم لا؟

أي عمل فني أو إعلامي يجب أن يُنتَج بمزاج كي يصبح قادرا على منح المتعة، لا شئ مجاني، والتكلفة ليست مادية فحسب، وإنما الإنفاق الحقيقي هو بذل أقصى طاقة إبداعية كي يخرج المُنتَج إلى النور، هذا وحده ما سيضمن له أن يعيش أطول فترة ممكنة، ربما يُعرض المُنتَج على شاشةٍ ما بقرار إنتاجي، لكن لا يعني هذا أنه سيجلب المتعة، ولو أن درسا سيخرج به أي شخص من أزمة الكورونا، فهو بالضرورة كيف يمكن الحفاظ على جودة حياته، ليس بالأكل الصحي وحسب، ولا بالرياضة وحدها، وإنما بما يختار أن ينفق فيه عمره سواء بالعمل أو الترفيه، وهو أمر سيؤدي إلى تغيير كثير من أنماط السلوك، وسيترتب على ذلك تبعات اقتصادية واجتماعية.

أما ما علاقة ذلك بالشاشة؟ سيكون له تأثير كبير، عندما وجد الأشخاص أنفسهم محبوسون في بيوتهم كان عليهم الاختيار بالضرورة بين ما هو متاح.. هذا بطبيعة الأمر، لكن من سيخرج من هذه الأزمة متزنا سيختار ما يريد وإن لم يكن متاحا سيعطي الشاشة ظهره، وسيجد أشياء أخرى ليفعلها، أو منصات أخرى ليتواصل معها، فلم يعد في العمر الكثير لإضاعته على مُنتَج لا يأتي حسب “المزاج”. وهو أمر جد خطير.