سيرة القراءة (1).. طنط روز

حاتم حافظ

لا تسعفني ذاكرتي لتذكر أول كتاب رأيته في حياتي بالطبع. في بيتنا لم تكن هناك مكتبة. لا تحتفظ ذاكرتي برؤية أبي وهو يقرأ شيئا بخلاف الصحف، لكني أذكر مغامرة طفولية لاستكشاف مخبوءات أبي في مكتبة ذات ضُلف وأدراج مغلقة. فيها وجدت بعض الدفاتر التي عرفت منها أن أبي كانت له محاولات للكتابة وبالخصوص لكتابة الأغاني، كما وجدت أيضا بضعة كتب لم يكن هناك داع لتخبئتها، أغلبها كتب دينية. لكن هذه المغامرة حدثت – كما أتذكر – بعد تعميق علاقتي بالكتب وبالقراءة.

نرشح لك: حاتم حافظ يستعيد ذكرياته مع الكتب في “سيرة القراءة”

لهذا أظن أن الخبرة الأولى بالكتاب – لا بالقراءة – كانت في بيت خالي. خالي محمد كان فنانا. كان يعمل في الخط العربي بالوراثة عن خاله الذي كان أحد الخطاطين “الصييتة” في المحلة الكبرى. بعدما كبرت رأيت بعض الصور لخالي في مكتبه وهو يرسم. عرفت فيما بعد أن مكتب الخطاط كان مرسما أيضا. سافر خالي مبكرا للعمل في ليبيا، هناك كان شريكا لطارق نور في شركة إعلانات وليدة لكنه انفصل عنها فيما بعد. الشعارات الخاصة بالقوات المسلحة الليبية والنياشين المستخدمة في الجيش خالي قام بتصميمها. بعدها انتقل للكويت قبل أن يعد لمصر بعد مرض زوجته، أو قبله لا أذكر. ترحاله خلف أكل العيش ربما قضى على أحلامه كرسام، ويبدو أن ذلك كان السبب في أني لم أشاهده في مكتبه متلبسا بالرسم. ولسبب غير معلوم لم يحتفظ لنفسه بأي لوحة من لوحاته القديمة. لعلي أسأله عن السبب ذات مرة.

كان خالي متزوجا من شابة مسيحية من أصول أرمينية اسمها روز (روز ماري تنجر مجرودتش) التي أحتفظُ لها بذكريات طيبة جدا رغم موتها المفاجيء ونحن صغار، كنت وقتها في الثامنة. كان يسكن في عمارة بشبرا في الدور الحادي عشر مع زوجته وأبنائه الثلاثة وحماته وعدد لا يمكن إحصاؤه من القطط. فترة مرض طنط روز انتقل للسكنى في شقة عائلتها القديمة التي كانت في العمارة المواجهة لعمارته. في هذه الشقة كانت خبرتي الأولى بالكتاب.

قبل الانتقال للسُكنى فيها صعدتُ معه ومع أمي لنتفرج عليها. كانت خالية إلا من بعض الأثاث القليل حسب ما أذكر، وكانت فيما يبدو مغلقة منذ سنوات لأن التراب كان في كل مكان، لكن أصحابها احتفظوا فيها ببعض أثاثها وكثير من المتعلقات المخزونة في كراتين. في غرفة من الغرف – التي سوف تصبح غرفة إيهاب فيما بعد – وجدت أرتالا من الكتب والمجلات في منتصف الغرفة. هذا المشهد تحتفظ به ذاكرتي كما تحتفظ ذاكرات الشباب باللقاء الأول مع الحبيبة. غرفة واسعة جدا وفي منتصفها كومات من الكتب والمجلات، مشهد أسرني كطفل – فيما يبدو – وُلد ليقرأ. وبينما كانا يناقشان الطريقة التي سوف يوضع بها الأثاث في الغرفة أو شيء من هذا القبيل تسربتُ من خلف أمي وخالي وبدأت أقلّب في المجلات. كانت مجلات كرتون أجنبية، ربما كانت مجلات ميكي في نسختها الانجليزية، غير متأكد من ذلك لأن الذاكرة عادة ما ترتّق أعطابها بالتوهم، وغالبا كانت تخص طنط روز في طفولتها أو ما شابه. كطفل لم أكن من الأطفال الذين “يشبطون” في الأشياء، لكني أذكر جيدا أني تشبثت بالمجلات باستماتة كبيرة. لم أكن قد دخلت المدرسة بعد وبالتالي لم أكن أستطيع القراءة ولا حتى باللغة العربية لكن منظر المجلات فَتنّي حتى أني بكيت حين رفضَت أمي بحسم أن آخذ معي مجلة واحدة. خالي حاول معها لكنها رفضَتْ، وأمي حين ترفض يصبح الأمر منتهيا. أظن أنها رفضت لسببين – لأن هذا أكثر ما تعلمته من أمي – أولا لأنها أشياء لا تخصنا، وثانيا لأنها كانت مُتربة، وأنا من صغري مصاب بحساسية صدر مزمنة. على أية حال لم أهدأ إلا بعد أن وعدتني أمي بشراء مجلات تناسبني، وأمي حين تَعِد يكون أيضا الأمر منتهيا.

بعد عدة أيام عادت أمي من عملها حاملة عدة كتب عليها شعار دار المعارف التي ظللت لفترة طويلة أعتقد أن شعارها – الفنارة – يُطبع على كل الكتب، كلها. اشترت لي أمي كتابا باللغتين العربية والانجليزية، وبدأتْ في تعليمي القراءة. حين التحقتُ بعدها بالمدرسة كنت أقرأ العربية بدقة وسرعة ملفتتين فضلا عن قدرتي على حفظ أي نص عن ظهر قلب لدرجة أني حين كنت أقوم بقراءة كتاب القراءة غيبا كنت أقول “اقلب الصفحة” فكانت ذاكرتي لغوية بصرية معا.

بعد انتقال خالي وزوجته للشقة القديمة فرضت طنط روز ذوقها الأجنبي في كل مكان. كانت الشقة الوحيدة التي لا تشبه بيتنا وبيوت خالاتي وعماتي التي تكاد تكون متطابقة في كل شيء حتى شكل أكواب الشاي والصور الرديئة المعلقة على الحائط أو الآيات القرآنية المكتوبة بخط كوفي أو – بالطبع – صور عبد الناصر. بيت طنط روز كان انجليزيا. الأثاث والستائر وحتى المكتبة التي امتلأت بالكتب في ممر الشقة.. كل شيء كان موحيا بانجليزيته، حتى أنه كان بيتا هادئا، ويمكن فيه سماع موسيقى مختلفة عن المعتاد في بيوتنا. طنط روز نفسها التي أذكرها وأذكر طيبتها وجمالها جيدا لا أذكر صوتها كما لو أني لم أسمعه أبدا.

في المرات التي دخلت بيت خالي كنت أرى طنط روز – بعد اشتداد مرضها – في السرير تقرأ في كتاب، أو في مجلة مصورة. كل الكتب في بيت خالي كانت أجنبية. وفي المرات التي دخلت فيها بيت خالي لم أر شخصا آخر يقرأ في كتاب، حقيقة لم أر شخصا في أي بيت من بيوت خالاتي يقرأ في كتاب فانطبع في ذهني أن الكتب لا يقرأها غير الأجانب، ولسبب ما قررت أن أكون مثل طنط روز.

للتواصل مع الكاتب (من هنـــا)

نرشح لك: “حبل الغسيل”.. أقدم وسيلة للتواصل الاجتماعي